استمع إلى الملخص
- وُلد في كوسوفو لعائلة مهتمة بالثقافة العربية، وبرزت موهبته في الصحافة منذ صغره، مما أهله لدراسة القانون والعمل في جريدة "ريلنديا".
- شغل مناصب مهمة في كوسوفو، منها وزير إقليمي للإعلام، وعمل على تعزيز حرية الصحافة، وأصدر كتاب "فندق بيروت" مستعيداً ذكرياته عن الصراعات.
كتاب "حياة مع القلم"، الصادر حديثاً عن "دار دريني"، هو نتاج حوارات طويلة أجراها الصحافي الكوسوفي جلال الدين رجبي مع نهاد إسلامي، الكاتب والصحافي الكوسوفي المعروف في العالم الألباني بخبرته في "الشرق الأوسط"، بعدما غطّى سنوات الحرب الأهلية في لبنان وزار العديد من بلدان المنطقة، وقابل سياسيّين ومثقّفين معروفين فيها.
يشمل العمل (قرابة 400 صفحة) موضوعات مختلفة من سيرة نهاد إسلامي، والذي يصفه الكاتب ووزير الخارجية الألباني الأسبق بسنيك مصطفى، في تقديمه للكتاب، بأنّه "من الشخصيات المعروفة في الصحافة الثقافية" و"من الشخصيات الألبانية النادرة التي ارتبط اسمها بالشرق الأوسط في مرحلة الحرب الأهلية في لبنان والانتفاضة في فلسطين".
وُلد نهاد سعيد إسلامي عام 1943 في مدينة فريزاي، جنوبي كوسوفو، لأب درس اللغة العربية والشريعة والتاريخ في "مدرسة سكوبية" المعروفة في يوغسلافيا الملكية، وأصبح سكرتيراً لبلدية المدينة عام 1941، حين أصبحت كوسوفو جزءاً من "ألبانيا الكبرى" (1941 - 1945)، ثمّ انتقل عام 1945 إلى بريشتينا وتابع دراسته في "دار المعلّمين"، وعمل لاحقاً مدرّساً للتاريخ في "مدرسة علاء الدين الثانوية" إلى رحيله عن عالمنا عام 1968، أي في الفترة التي بدأ فيها صعود ابنه نهاد في الصحافة الكوسوفية.
ألهمت كتاباته عن فلسطين كثيراً من الشعراء والكتّاب الألبان
برزت اهتمامات نهاد إسلامي في الكتابة للصحافة منذ المدرسة الثانوية، حيث أرسل مقالاته الأُولى للنشر في "ريلنديا"، الجريدة الأبرز باللغة الألبانية في كوسوفو. وبسبب موهبته، قدّمت له الجريدة منحة لدراسة القانون في "جامعة زغرب"، لكي يعود ويعمل فيها، وهو النظام الذي كان شائعا في يوغسلافيا آنذاك.
كان من حظّ نهاد إسلامي أن يدرس في جامعة زغرب، حيث كانت كرواتيا تشهد حرّية نسبية بالمقارنة مع صربيا وكوسوفو. وقد تصادف، مع نهاية دراسته وعودته إلى بريشتينا عام 1966، حدثٌ مفصلي برز معه نهاد بسرعة بصفة صحافي، وهو إقالة نائب الرئيس والشخص الثاني في النظام اليوغسلافي ألكسندر رانكوفيتش، الذي اعتُبر مسؤولاً عن تجاوزات خطيرة لجهاز الأمن ضدّ الألبان والبُشناق لدفعهم للهجرة إلى تركيا خلال 1956 - 1966. فقد كلّفت جريدة "ريلنديا" الصحافي الشاب نهاد بأن يتجوّل في كوسوفو، ليكشف عبر الاجتماعات الحزبية والنقابية عن الممارسات التي ارتُكبت، والتي كسرت جدار الخوف وفتحت الآفاق لإعادة تشكيل يوغسلافيا في عام 1974 بدستور جديد أصبحت فيه كوسوفو وحدة فدرالية مؤسِّسة للاتحاد اليوغسلافي.
وحقّق نهاد شهرة كبيرة أُخرى حين انتقل للعمل في التلفزيون الكوسوفي الذي بدأ عمله فيه عام 1968؛ حيث كان يقدم ريبورتاجات نقلت الواقع بشكل مختلف مع انتشار التلفاز في البيوت. وأصبح اسم نهاد إسلامي معروفاً أكثر عام 1971 بعد أن أصبح من أوائل الصحافيين الذين زاروا ألبانيا المجاورة عام 1971، بعدما تحسّنت العلاقات بالتدريج بين يوغسلافيا وألبانيا عقب ما حدث في 1966. فقد كانت الحرب الإعلامية في أوجها بين الدولتين منذ 1948، بعد اتهام ستالين للرئيس تيتو بـ"التحريفية" ومساندة ألبانيا لستالين. كانت نظرة الألبان في كوسوفو إلى ألبانيا جارفةً بفضل الدعاية الألبانية التي كانت تُصوّر ألبانيا باعتبارها "جنّة أرضية".
ولكن مع وصول نهاد إسلامي، مع زملائه الصحافيّين إلى تيرانا عام 1971 لتغطية التوقيع على اتفاقية للتعاون الأكاديمي بين جامعتَي بريشتينا وتيرانا، جاءت صدمة العمر حين رأوا ألبانيا أخرى مختلفة تماماً عن الصورة الشائعة لدى الألبان في كوسوفو. وبعد ابتلاع الصدمة، عقد نهاد وزملاؤه الصحافيون "اتفاقاً سرّياً" قاموا بموجبه بتقديم صورة إيجابية عن ألبانيا في ما أرسلوه من ريبورتاجات، لأنّهم اعتبروا أنّ تصوير "ألبانيا الموجودة في الواقع" سيشكّل صدمة للألبان في كوسوفو وخدمة للمخابرات الصربية/ اليوغسلافية التي كانت دائماً تُقدّم صورة مختلفة عن ألبانيا بحكم الخلاف الأيديولوجي بين الدولتين، وهو السرّ الذي أخفوه حتى عن أُسَرهم عندما عادوا إلى كوسوفو.
بعد ألبانيا، كانت هناك محطّة مهمّة في انتظار نهاد إسلامي، حيث أعلنت جريدة "ريلنديا" عام 1974 عن حاجتها إلى مراسلين في الشرق الأوسط وأوروبا وأميركا، وفاز بهذه الفرصة بحُكم معرفته بعدّة لغات، حيث اتّخذ من بيروت مقرّاً له. وفي هذا الكتاب، يكشف نهاد عن طبيعة شخصيته عندما سُئل عن اليوم الأوّل لعمله في بيروت، فاكتفى بالقول: "يكفي أنّي قابلت فيه فاروق القدّومي، رئيس الدائرة السياسية لمنظّمة التحرير الفلسطينية آنذاك".
وبعد شهور من وصوله إلى بيروت، اندلعت الحرب الأهلية في لبنان، فتوجّهت أنظار العالم إلى عاصمته، وكتب نهاد تقارير مهمّة لفهم ما يحدث هناك، وخاصّة مع السبق الصحافي له في العديد من الأحداث البارزة، مثل حصار مخيّم تلّ الزعتر واقتحامه، حيث كان من أوائل الصحافيّين الذين دخلوه وكتبوا عن أهوال ما شاهدوه. وقد أثار ما نشره عن تل الزعتر اهتمام القرّاء الألبان، حتى أنّ الشاعر الكوسوفي البارز أنور جرتشيكو (1928 - 2008) نشر، حينها، قصيدةً بعنوان "تل الزعتر"، والتي يقول فيها:
تلّ الزعتر
أنت شاطئ بحر دون نهاية
دون صخور، دون رمال
أنت وطني المصغّر
الذي ترسمه أصابع وأيادي الأطفال
المشوَّهين بالنابالم
أنت من أكثر الأغنيات حزناً
التي تُغنّى للطفل
المولود بين الحب والحقد،
للطفل الذي لم يتعلم بعد نطق اسم أمّه.
أنت السورة الأولى والأخيرة
لقرآن جديد،
لقرآن محفور على الجماجم،
أنت أعظم معبد
حين يصلّي المرء للإله،
لآلهة الحرية.
أما بقية الآلهة فتصمت
أو تردّ متأخّرة:
تلّ الزعتر!
لدينا في الكتاب الكثير من المعايشات للحرب الأهلية، ومن ذلك اليومُ الذي كان فيه نهاد إسلامي في شارع الحمرا ووقع القصف الذي طاول مكتبة أنطوان القريبة، والتي كان يتزوّد منها بالكتب، فسارع لرؤية ألسنة النار تلتهم الكتب، وتمكّن بالصدفة من إخراج نسخة لرواية إسماعيل كاداريه "جنرال الجيش الميت" بالفرنسية، وكانت النار قد التهمت غلافها فقط، فحملها معه للذكرى إلى موطنه.
عرفات ودرويش وبسيسو
في استعادته لذكرياته، يتحدّث نهاد إسلامي عن الكثير من الشخصيات التي التقاها لإجراء مقابلة صحافية ثمّ توطدت العلاقات معها، ومن هؤلاء ياسر عرفات وجورج حبش ووليد جنبلاط وجلال الطالباني وغيرهم. في ما يتعلّق بياسر عرفات، يذكر أنّه حرص عند اللقاء الأوّل على أن يُعرّف نفسه بصفة صحافي ألباني، وهنا سأله عرفات عن ألبانيا، وأشاد بألبانيا أنور خوجا التي كانت قد فتحت معسكرات لتدريب المقاتلين الفلسطينيّين على حرب الشوارع.
كتب عن الشخصيات الألبانية التي برزت في المنطقة العربية
وفي المقابلة الأُولى مع الشاعر معين بسيسو التي وطّدت صداقة بينهما، قال له إنّه الآن يؤيّد ياسر عرفات، ولكن بمجرّد أن تتأسّس الدولة الفلسطينية "سأكون أكبر معارض سياسي لعرفات لأنّي أطمح أن ندفع بلدنا إلى الأمام في ظروف الحرية". أمّا في اللقاء الأوّل مع محمود درويش، الذي كان يسكن بالقرب منه، فبدا الأخير ناقداً بشدّة لـ"المحيط الفاسد حول عرفات". وقد ذكر له، باعتباره مستشاراً لعرفات، الكثير من القرارات غير الحكيمة التي كان عرفات يتّخذها "نتيجة ضغوط قوية من بعض الدول العربية".
رمز فلسطين في الأدب الألباني
ضمن الحوار الطويل مع نهاد إسلامي، كان هناك شبه اتّهام له بأنّه كان منحازاً إلى الطرف الفلسطيني، وهو ما جعل المصير الفلسطيني ملهماً للشعراء والكتّاب الألبان في أعمالهم. وحول ذلك يقول إنّه كان ينقل الوضع كما عايشه في المخيّمات دونما انحياز، ولكن تفاعُل القرّاء الألبان مع ما كان يكتبه حرّك فيهم مشاعر جديدة. وهكذا، حسبما يراه، كان مصدر التعاطف الألباني مع الفلسطينيّين يعود إلى أنّ الألبان كانوا يشعرون بأنّهم مواطنون من الدرجة الثانية في يوغسلافيا كما هو الأمر مع الفلسطينيّين سواء في موطنهم الأصلي أو في الدول التي لجأوا إليها، حيث كانوا يكافحون من أجل دولتهم الوطنية. ولذلك فإنّ "الكتّاب الألبان كانوا يكتبون الأشعار والقصص عن فلسطين وهُم يحلمون أيضاً بأن يتحقّق حلمهم باستقلال كوسوفو".
جلال الطالباني ومستقبل الأكراد
من الشخصيات التي تعرّف إليها نهاد إسلامي القائد الكردي والمعارض العراقي المتنقّل ما بين بيروت ودمشق الراحل جلال الطالباني، الذي سرعان ما توطّدت العلاقة بينهما بحكم التشابه بين الأكراد والألبان، بالاستناد إلى المثل الشائع "النبي كردي وأصحابه الأرناؤوط"، ولكونهم يعيشون في أربع دول مجاورة (ألبانيا وكوسوفو ومقدونيا الشمالية والجبل الأسود)، مع الفارق في أنّ ألبانيا دولة مستقلّة في حين أنّ دستور كوسوفو نصّ بإرادة دولية على أنّه "لا يحقّ لكوسوفو الاتحاد مع أيّ دولة مجاورة". تحدّث نهاد في هذا الكتاب عن تاريخ وثقافة الأكراد ومشكلة انقسامهم ودور الدول الحاضنة لهم والدول الكبرى، وانتهى إلى القول: "من حقّ الأكراد في كردستان التي يعيش فيها حوالي عشرين مليوناً أن تكون لهم دولة فيها، ولكنّهم سيبقون منقسمين (في الدول التي يعيشون فيها) بسبب استحالة اتحادهم"، نتيجة لانقسام قياداتهم واتحاد مواقف الدول الأربع التي يعيشون فيها.
يرفض نهاد في هذا الكتاب توصيفه بأنه "مراسل حربي" لأنّه حين ذهب إلى بيروت في نهاية 1974 كان يسعى لأن تكون بيروت قنطرة بين العالمين العربي والألباني. ولذلك، مع إغراءات الحياة فيها، كان في حركة دائمة في لبنان والعديد من البلدان العربية (سورية والعراق ومصر والجزائر وغيرها) للتواصل الثقافي بين الجانبين. وفي هذا السياق جال وبحث عن الشخصيات الألبانية التي عاشت وأبدعت في المنطقة، ومن هؤلاء واصا باشا متصرّف جبل لبنان (1893 - 1892)، "الذي كان متصرّفاً في النهار وكاتباً ألبانياً في الليل" ألهم الحركة القومية الألبانية بأفكاره وقصائده. كما استفاد نهاد إسلامي من زياراته لمصر ليبحث ويكتب عن محمد علي ومشروعه وعن الألبان الذين بقوا يعيشون في مصر وبلاد الشام، كما اهتمّ بلقاء الكتّاب العرب وإجراء مقابلات معهم، مثل معين بسيسو ومحمود درويش ونجيب محفوظ وغيرهم.
لا بديل عن الدولة الفلسطينية
جرت الحوارات مع نهاد إسلامي من أجل هذا الكتاب قبل السابع من تشرين الأوّل/ أكتوبر 2023، غير أنّ الموضوع الفلسطيني شغل حيّزاً منه منذ اليوم الأوّل لوصوله إلى بيروت التي التقى فيها بفاروق القدومي، ولاحقاً بعدد من الشخصيات الفلسطينية السياسية والثقافية البارزة، وحتى ذهابه إلى القدس عام 1977 لتغطية زيارة السادات والاطلاع على رأي فلسطينيّي الداخل وما بعد ذلك حتى 2023.
يسأل مُعدّ الكتاب: هل يمكن أن يتمتّع الشعب الفلسطيني أخيراً بالسلام؟ وهل ستتوقّف الصراعات في الشرق الأوسط؟ فيجيب نهاد إسلامي: "الشرق الأوسط لا يمكن أن يستقرّ إلّا عندما تعترف إسرائيل والعالم بالدولة الفلسطينية المغيّبة".
ما ورد هنا يُغطّي النصف الأوّل من الكتاب، بينما يُغطّي النصف الثاني الجانب الكوسوفي في حياة نهاد إسلامي، حيث أصبح وزيراً إقليمياً للإعلام (1978 - 1980)، ثم عاد إلى جريدته "ريلنديا" ليتولّى قسم السياسة الخارجية فيها، وصولاً إلى حرب 1999 التي هُجّر خلالها وأصبح لاجئاً في المخيّمات التي أقيمت على عجل في جمهورية مقدونيا المجاورة؛ حيث تذكّر هناك المخيّمات الفلسطينية، ثم عودته بعد تحرّر كوسوفو وعمله مع "معهد الحرب والسلام"، ثم سكرتيراً لـ"مجلس الرقابة على الإعلام" بدعم من الاتحاد الأوروبي لاعتماد "قانون أخلاقي" للممارسة الصحافية في ظروف الحرّية الجديدة. وفي هذه السنوات لم ينقطع عن بيروت و"الشرق الأوسط"، حيث أصدر في 2013 كتابه "فندق بيروت"، الذي استعاد فيه ذكرياته وبعض كتاباته عن الصراعات في المنطقة.
* مؤرخ وكاتب كوسوفي سوري