نزار شقرون: عن منزلة النقد الفنّي في الثقافة العربية

نزار شقرون: عن منزلة النقد الفنّي في الثقافة العربية

22 يناير 2022
نزار شقرون خلال الندوة
+ الخط -

كثيراً ما تُستدعى العلاقة التاريخية بين العرب والصورة عند الخوض في موضوع الثقافة البصرية عربياً؛ إذْ يُعمَد - في سياق تفسير ضعفها في الثقافة العربية - إلى التذكير بهذا التاريخ الذي وُضعت فيه الصُّورة ضمن مكانة هامشية، بالمقارنة مع فنون كتابية وشفاهية أُخرى، لأسباب دينيّة في الغالب تمثّلت في تحريم "التصوير"، وإنْ لم يخلُ الأمرُ مِن استثناءات قليلة مِن قَبيل رسومات يحيى بن محمود الواسطي في بدايات القرن الثالث عشر الميلادي، فضلاً عن أنَّ تلك الإكراهات أدّت، من جهة أُخرى، إلى البحث عن بدائل أُخرى للرسوم التشخيصية تمثّلت في الخطّ العربي والزخرفة اللذين سيُشكّلان عمادَ ما يُعرف بالفنون الإسلامية التي ستبرز وتتطوَّر وتزدهر على مدار قرون.

مِن الإصدارات الحديثة التي تتناول إشكاليات الثقافة البصرية عربيّاً كتابُ "بحثاً عن هوية" للباحث التونسي نزار شقرون (1970)، والذي صدر حديثاً عن "دار لوسيل" في الدوحة، وهو عملٌ يندرج ضمن انشغالاته بالفنون البصرية من منظور ثقافي شامل. وقد جرى تقديم هذا العمل في ندوةٍ أُقيمت نهاية الأُسبوع الماضي، ضمن فعاليات الدورة الواحدة والثلاثين من "معرض الدوحة الدولي للكتاب"، وقدّم فيها المؤلّف مداخلةً بعنوان "التفكير في التجربة الجمالية".

يقول شقرون في مداخلته: "لا يُمكن النظر في إشكالية النقد الفنّي خارج القضيّة العمدة، وهي منزلة النقد في ثقافتنا العربيّة عموماً. لو عدنا إلى مساءلة مصطلح "النقد الفنّي"، فسنرى أنّ تاريخنا الثقافي لا يحتمل هذا المصطلح، فأغلب النقد تصدّى للشعر، من لحظة قدامة بن جعفر النقدية. وحتّى في الغرب، فالمصطلح نفسه لم يظهر إلّا في حدود القرن التاسع عشر، مع ديدرو وبودلير، في تفاعلٍ مع ما نظّر له جيامباتيستا فيكو الذي احتوى كتابه القيّم "منهج دراسات عصرنا" على التمرين على النقد وربط فعل النقد بالمجتمع، ولا ننسى الدعامة الفلسفيّة التي وفَّرها إيمانويل كانط للنقد أيضاً في تناوله لملكة الحكم".

النقّاد العرب اليوم مدعوّون إلى تبسيط المعرفة البصرية

يضيف: "وبما أنَّ 'النقد الفنّي' مجالٌ بكرٌ قياساً بفروع أُخرى في الخطاب والمعرفة، فإنّه ما يزالُ محلَّ التباسٍ علمي بالأساس، فهو متّصل بتاريخ الفن وفلسفة الجمال ونظريّات الفنّ وبعلم المصطلحات، فلا يكون خطابه خالياً منها. وإذا كان خطابنا النقدي العربي يتصدّى للأنواع الأدبيّة، فإنّه شحيح في تصدّيه للفنون البصريّة عامّة، ذلك أنّ دخول هذه الفنون، من فنون تشكيليّة، ومسرح، وسينما وغيرها، إلى العالم العربي كان متأخّراً قياساً بظهورها في الغرب، وارتهن الخطاب الجمالي في ثقافتنا ببعض الفنون ومنها فنون الخط والزخرفة والعمارة، بسبب سطوة الذهنيّة الفقهية العربية التي منعت "التصوير" فعطّلت قدرات المبدع العربي وأفقدت حضارتنا منتجات بصريّة كثيرة قياساً بما توفَّر لدى حضارات أُخرى".

يشبّه الباحث التونسي ما حدث في ثقافتنا بعملية "تعطيل للعين"، موضّحاً ذلك بأن خطاب التحريم أدّى إلى "شطبِ ممكنات العين الثقافيّة. لذلك لم ينشأ إلّا خطاب نقدي قليلٌ عن الفنون التي وفدت في القرن العشرين، حيثُ ابتليَ اللاوعي النقدي بهذا المنع، ومثلما حوصرت الفنون وخاصّة التشكيليّة منها بالنظرة الاجتماعيّة الدونيّة، حوصر النقدُ باعتباره - في جزءٍ من أدواره - خطاباً واصفاً لهذه الفنون ومعرّفاً بها، قبلَ أنْ يكون حكماً عليها"، بحسب تعبيره.

يتابع شقرون بالقول: "قبل قرن، ذكر الشيخ محمّد عبده أنّ العرب يعرفون 'ديوان الأحوال' ولكنّهم لا يعرفون 'ديوان الهيئات'، ويقصد بذلك بأنّ الثقافة العربيّة تُجلّ الشِّعر وغيرَه من المرويّات، إلاّ أنّها لم تستقبل بعدُ ما يتعلّق بالصورة، وتُعتبر فتوى الشيخ عبده عن إباحة الصّور والتماثيل في تلك اللحظة التاريخيّة التي وُسمت بدعوة إلى الإصلاح الديني، من أهمّ الوثائق التي تصدّت لقضيّة خلافيّة إلى الآن، ومن الغرابة أن يستمرّ هذا الجدلُ إلى يومنا حولها، وهو ما يؤكّد أنّ الثقافة العربيّة ليست غير نسق مغلقٍ بحاجة إلى تثوير وتنوير. لهذا لا يتسنّى لهذا الجيل أن يصطنع خطاباً نقديّاً حول الفنون البصريّة، بالشكل العميق، في سياق تحريمي/ تجريمي للفنون".

يؤثّر فيلمٌ أميركي فينا كما لا تفعل أطنانٌ من الكتب

يقول، هنا، الباحث التونسي: "إنّنا نعيشُ أمّية بصريّة حقيقيّة، وهو ما أتاح للدوائر الغربيّة أن تتسلّل إلى أعماقنا وتغيّر من تفكيرنا وأنماط عيشنا من خلال الصّورة، ففي حين يتحدّثون في الغرب قبل عقود عن "مجتمع الفرجة" و"مجتمع الصورة"، فإنّنا نعيش بتفاوُت من بلد عربي إلى آخر، في مجتمع "الحديث" والمشافهة. إنّ فيلماً أميركيّاً يقدر على تغيير سلوك شبابنا في مدّة وجيزة، بينما تعجز أطنان من الكتب على إحداث تغيير في عشرات السنوات".

وعلى مستوى آخر، يشير شقرون إلى عدم توفّق العرب في إبداع "أيقونات" تمثّل عذاباتهم ونكباتهم وتطلّعاتهم، حتى أنه "حينَ نريد أنْ نستدلَّ على أنظمة الاستبداد ومساوئها نستحضر "غيرنيكا" بيكاسو، أي نستدلّ على أنفسنا بالذاكرة البصريّة الغربيّة لخلوّ ذاكرتنا البصريّة من الأعمال الفنية العميقة، وإن وُجدت بعض الأعمال العربيّة، فإنّها مهملة بسبب غياب رافعة النقد". 

يعتبر صاحب كتاب "نشأة اللوحة في الوطن العربي" أنه "قبلَ أن يكون النقد الفنّي مجالاً يمتلكه نقّاد الفنّ، فإنّنا مدعوّون إلى تربية الناشئة على النقد، وقبلَه "تربية العين" لديهم حتّى لا تبقى وظيفتها بيولوجيّة فقط، وتترقّى إلى الوظيفة الثقافية، وهذا يحتاج إلى رفع الوعي بأهمية الفنون في الوطن العربي، لرفع ذائقة المجتمع، فمن الصعب بناء خطاب نقدي والحديث عنْ 'ناقد' فنّي في سياق ثقافي ليسَ فيه أبجديّات ثقافة العين، على أنّ النقاد القلائل في هذه الفترة مدعوّون للأسف إلى لعب أدوار ليست من ضمن أساسيات دورهم ومنها تبسيط المعرفة البصريّة لأبناء المجتمع، وهو دور من المفترض أن تتكفّل به مؤسّسات وهيئات ثقافيّة حكوميّة ومجتمعيّة".

وقفات
التحديثات الحية

المساهمون