استمع إلى الملخص
- في المسلسلات التاريخية والروايات، يُستخدم الحوار بالفصحى المعاصرة، مما يخلق تحدياً للكتاب في تقديم حوار تاريخي مقنع بسبب نقص المعلومات عن اللهجات التاريخية.
- يواجه الروائيون العرب تحديات في استخدام الفصحى في الحوار الروائي، حيث تُضعف التفاعل بين الشخصيات، بينما تبدو العامية أكثر صدقاً، رغم اختلاف اللهجات بين الدول العربية.
تشير معظم الدراسات اللغوية العربية إلى أن أحداً من العرب لم يتحدّث بالفصحى مطلقاً طوال التاريخ، وأنَّ لغة المعاجم التي أخذ العلماء العرب يعملون على جمعها، وتبويبها، وتصنيفها، وشرح ألفاظها، هي لغة مشتركة بين مجموعة من القبائل العربية التي كانت تختلف في لهجاتها. ولهذا فإنَّ التاريخ ظلّ على حاله: أن يقرأ العربي القرآن والشعر والأدب، وأن يلقي الخطبة والموعظة باللغة الفصحى، وأن يتحدث مع صديقه، أو زوجته، أو ابنه، باللغة المحكية، في اللهجة المتفق عليها.
لا تزال اللغة العربية الفصحى على حالها، فلا أحد يتحدّث بها اليوم أيضاً، علماً أن لغتنا الفصحى المعاصرة ليست هي نفسها لغة الجاحظ أو التوحيدي أو أبي تمام. ويمكن تتبّع الأمر بوضوح في المسلسلات التاريخية التي ازداد إنتاجها في العقود الأخيرة، وهي تزعم أنها تحاكي في حوارها الزمن التاريخي، وأنّ العرب في الماضي كانوا يتحدثون لغة واحدة لا تخترقها أي لهجة.
لا تشبه العامّية الفصحى في قدرتها على خلق التواصل مع القراء في العالم العربي
ولكن ما نسمعه في المسلسلات التاريخية من حوار بين الشخصيات، ليس هو بالضبط ما كانت تتخاطب به تلك الشخصيات، وذلك لأن جميع الكتّاب اليوم لا يعرفون ما اللهجة التي كانت سائدة في بلاد الشام في التاريخ، ولا اللهجة أو لغة الخطاب التي كانت سائدة في مصر أو العراق أو المغرب العربي. ولهذا فإنها لا تستطيع أن تقنعنا بأن أشخاصها كانوا يتحدثون الفصحى التي نعرفها، إلا على سبيل التخييل.
ويبدو هذا الحرج مقلقاً في الرواية التاريخية، إذ يضطر الروائي لتقديم الخطاب أو الحوار بين الشخصيات باللغة الفصحى المعاصرة، أي باللغة التي عملت الصحافة والمقالة والشعر الحديث على تبسيطها أو تقريبها من لغة حديث "طبيعية". غير أنها ليست كذلك، ومع ذلك فإن الرواية التاريخية تجد نفسها مضطرة لتقديم الحوار بين الشخصيات العربية بالفصحى نفسها، بغض النظر عن مكان الأحداث أو جغرافيتها. وهذا هو مصدر الحرج الذي يواجه النقاد أو اللغويين الذين يصرّون على كتابة حوار الشخصيات بالفصحى، إذ لا توجد فصحى قطعاً في أي حوار بين الشخصيات الحية التي تتحرك في الشارع، لا في صفحات كتاب. كما تتشابه لغة خطاب الشخصيات، بغض النظر عمّا إذا كانت تعيش في الأندلس أو في العراق.
والمشكلة لم تُحلّ بعد. صحيح أن حدتها الأيديولوجية قد خفّت بمرور الزمن، إذ كادت تشعل الحرب (وهي حرب بالوكالة بين اليمين واليسار، وبين القديم والجديد، وبين التقدم والرجعية) بين دعاة الفصحى وأنصار العامية، وخاصة في الحوار الروائي. فلا يزال الروائي العربي يقف حائراً أمام مسألة الحوار، وفي معظم الروايات العربية تثقل الفصحى، حين تُستخدم في الحوار، كاهل الشخصيات، وتُزهق تبادل الحوار بينهم وبين الآخرين، بينما تبدو الشخصيات التي تتحدّث العامية أكثر صدقاً، وأكثر راحة، وقوة على القول وتبادل الأفكار. غير أن المشكلة الراهنة هي أن العامية العربية ليست عامية واحدة، وفي سورية أو العراق، مثلاً، عشرات اللهجات التي يمكن أن تستعصي على الفهم إذا ما استُخدمت كما هي في الخطاب اليومي للناطقين بها، في الحوار الروائي، ولا تشبه الفصحى في قدرتها على خلق التواصل مع القراء في العالم العربي.
* روائي من سورية