من الفن إلى الطعام: هكذا انتهت قصة "تاون هاوس" في مصر

23 مارس 2025
صالة العرض الرئيسية في مؤسسة "تاون هاوس"
+ الخط -

استمع إلى الملخص

اظهر الملخص
- تأسست "تاون هاوس" للفنون المعاصرة في القاهرة عام 1999، ولعبت دوراً مهماً في دعم الفنانين المصريين وتطوير المشهد الفني، لكنها أثارت جدلاً بسبب اتهامات بتبني أجندة غربية.
- بعد 2013، واجهت المؤسسة تضييقاً من السلطات المصرية، مما أدى إلى إغلاقها مؤقتاً في 2016، ضمن حملة لكبح النشاط الثقافي المستقل، خاصة بعد قانون الجمعيات الأهلية 2019.
- شهدت "تاون هاوس" تحولات بعد رحيل الشريك المصري ومنع وليم ويلز من دخول مصر، مما أدى إلى توقف نشاطها وتحولها إلى غاليري، وظهرت في إعلان رمضاني كمكان لتقديم الطعام.

إعلان تقليدي عن مطعم في رمضان: مساحةٌ مفتوحة وحوائط مزيّنة باللوحات، وفتاة تستعرض مائدة الطعام الرمضانية، متحدّثة عن مميزات المطعم والأجواء الخاصّة التي حرص القائمون عليه على توفيرها للزبائن. حتى هذه اللحظة، يبدو الأمر مألوفاً، إذ يمتلئ فضاء الإنترنت بالعشرات من الإعلانات المشابهة لمطاعم تقّدم وجبات في الشهر الفضيل. لكن ما أثار الجدل وأشعل الغضب هو أن المساحة التي ظهر فيها الإعلان لم تكن مجرد مطعم عادي، بل هي قاعة العرض الرئيسية لمؤسسة "تاون هاوس" للفنون المعاصرة، إحدى أبرز المؤسسات الفنية التي ظهرت في مطلع الألفية الثالثة في قلب القاهرة. 

هذه المؤسسة، التي رافق حضورها كثيرٌ من الجدل، أسهمت في دعم العديد من الفنانين المصريّين الذين صار بعضهم أسماء بارزة في مجال الفنون البصرية عالمياً، مثل حسن خان ووائل شوقي؛ هذا الأخير الذي مثّل مصر في الدورة الأخيرة من "بينالي البندقية".

برز دور مؤسسة "تاون هاوس" منذ إنشائها عام 1999 كمشروع فنيٍّ وثقافيٍّ غير ربحي، أسّسه الكندي ويليام ويلز بالشراكة مع الفنان والناشط الثقافي المصري ياسر جراب. اختار الشريكان أن يؤسّسا مشروعهما الثقافي الطموح في مساحة مهجورة كانت مخصّصة في السابق كمصنع للورق، في منطقة تعجّ بالورش والمقاهي في وسط القاهرة. اعتمدت المؤسسة في تمويلها على الدعم المقدّم من بعض المؤسسات الغربية والهيئات الأوروبية المعنية بدعم الأنشطة الثقافية في المنطقة العربية. ومع مرور الوقت، أصبحت "تاون هاوس" – إلى جانب مؤسسات أخرى ظهرت تباعاً منذ بداية الألفية – محركاً رئيسياً للنشاط الفني المعاصر في مصر، من خلال تبنيها ومشاركتها في العديد من الأنشطة الثقافية المهمة.

أثارت المؤسسة حفيظة المنتقدين الذين اتهموا الإدارة بتبنّي أجندة غربيّة 

من بين أبرز هذه الأنشطة التي شاركت فيها "تاون هاوس"، يأتي مهرجان "النطاق" الذي أُقيم عامي 2000 و2001 قبل أن يتوقف بسبب خلافات بين المنظمين. كان المهرجان حدثاً فنياً ضخماً بحق، حيث استضاف معارض وحفلات موسيقية ومحاضرات وعروضاً أدائية وأفلاماً قصيرة، إلى جانب ورش العمل ولقاءات مع المبدعين. وقد تميّز المهرجان باستخدام المساحات الفارغة في وسط المدينة بطرق مبتكرة، حيث وُظفت المباني المهجورة، وواجهات المحلات في شارع طلعت حرب، وكذلك غرف الفنادق والشرفات والحانات والمطاعم والمقاهي الشعبية.

تاون هاوس - القسم الثقافي
رأى البعض أن "تاون هاوس" لعب دوراً تنافسياً مع المؤسسات الرسمية

كانت هذه هي المرة الأولى التي يُنظّم فيها مهرجان بهذا المستوى في القاهرة، تحت إدارة مستقلة تماماً عن أي تمويل رسمي، وبأسلوب يحوّل حياً كاملاً إلى فضاء نابض بالعروض الفنية. لم يقتصر تأثير "تاون هاوس" على مجاله الفني فقط، بل امتد ليُضفي حيوية على محيطه، حتى شمل المقهى المجاور، المعروف بـ"التكعيبة"، الذي انتعش وأصبح واحداً من أبرز ملتقيات الفنانين والمثقفين والكتّاب. وقد تمكّن هذا المقهى من خطف الأضواء من أماكن أخرى عريقة، مثل "أتيليه القاهرة" و"مقهى ريش" الشهير، الذي لا يبعد كثيراً عن الموقع.

رأى البعض أن "تاون هاوس" لعب دوراً تنافسياً مع المؤسسات الرسمية، خاصة لتبنّيه إبداعات الشباب وتنظيمه للمسابقات والندوات وانفتاحه على العروض الفنية المعاصرة. هذا النهج أثار حفيظة بعض المنتقدين الذين اتهموا القائمين عليه بتبني أجندة غربية تهدف إلى تشويه الذوق العام، عبر تقديم اتجاهات فنية غريبة على المجتمع المصري، وخارجة عن سياق التطور الطبيعي للثقافة والفنون في البلاد. بل وصل الأمر إلى حدّ اتهامه صراحةً بتلقي دعم من جهات مشبوهة، دون تحديد ماهية هذه الجهات.

أسهمت المؤسسة في كسر احتكار الدولة للنشاط الفني في القاهرة

بعد عام 2013، أصبح من الواضح أن السلطات الجديدة بدأت تنظر إلى المساحات الفنية والثقافية المستقلة بشكّ وحذر، وقد تعرضت العديد من هذه المؤسسات المستقلة بالفعل لتدخلات أمنية متكررة. في عام 2016، أغلقت سلطات الأمن مؤسسة "تاون هاوس" لعدة أشهر، معللة ذلك بأسباب إدارية مثل عدم وجود مخرج طوارئ. ومع ذلك، ظلّت هناك شكوك تحوم حول الأسباب الحقيقية للإغلاق، والتي بات واضحاً أنها مرتبطة بأبعاد سياسية وثقافية واجتماعية. هذه الشكوك كانت تتعلّق بطبيعة الجمهور الشاب الذي يرتاد المكان، وحتى بنوع الفن الذي يتم عرضه.

تاون هاوس - القسم الثقافي
فرض قانون الجمعيات لعام 2019 عليها قيوداً صارمة

أسهمت مؤسسة "تاون هاوس" مع غيرها من المساحات الفنية المستقلة في كسر احتكار الدولة للنشاط الفني، وسعت إلى تحقيق استقلالية ذاتية بعيداً عن الأنماط الفنية السائدة للنخبة، كما تحررت في الوقت نفسه من سيطرة السياسات الرسمية. ورغم إمكاناتها المحدودة، نجحت هذه المؤسسات في خلق حركة فنية محلية مؤثرة، تواصلت في الوقت ذاته مع حركة الفن العالمي. ولكن يبدو أن هذه الاستقلالية لم تعجب السلطة الجديدة، ففي الفترة التي أعقبت عام 2013، وفي ظل أجواء مشحونة وتحريضية ضد أي دعم خارجي تتلقاه الجمعيات أو المنظمات العاملة في مصر، تسارعت إجراءات التضييق على هذه المؤسسات بحجج مختلفة. وبلغ الأمر ذروته، حيث وصل إلى حد التحرش الأمني ببعضها، ومصادرة الأعمال المعروضة، أو حتى الإغلاق، فضلاً عن الزيارات الأمنية المتكررة لأماكن العرض، والرصد الدائم لكل ما يُعرض أو يُنظم من أنشطة فنية داخل هذه المؤسسات، وهو ما لم يكن يحدث من قبل. أما الضربة القاصمة، فقد تمثلت في قانون الجمعيات الأهلية، الذي أقره البرلمان المصري عام 2019، وفرض قيوداً صارمة على تلقي المنح والدعم الخارجي، والذي كانت تعتمد عليه أغلب هذه المؤسسات. وأدى ذلك إلى تراجع نشاطها بشكل كبير، مما جعل وجودها واستمرارها في المشهد الثقافي على المحك.

وفيما يخصُّ "تاون هاوس"، فقد شهدت هذه المساحة الفنية تحوّلات دراماتيكية تتناسب مع طبيعتها الإبداعية، وكأنها تعيد تمثيل سرديتها الخاصة. فبعد رحيل الشريك المصري ياسر جراب بشكل مفاجئ عام 2020 بسبب ظروف صحية، وإبعاد وليم ويلز عن إدارة المؤسسة بعد منعه من دخول مصر، توقّف نشاط المؤسسة نهائياً. لم يتبق اليوم من هذا الصرح الثقافي سوى مبنى قديم على ناصية شارع النبراوي، المطل على قصر حليم باشا في وسط القاهرة. تحول جزء من تاون هاوس إلى غاليري لعرض الأعمال الفنية، بينما بقيت المساحة الرئيسية، التي كانت يوماً ما مسرحاً لأبرز العروض واللقاءات والورش الفنية، مغلقة إلى أن ظهرت أخيراً في إعلان رمضاني كفضاء لتقديم الطعام.

هذا التحول المثير يبدو وكأنه استكمال درامي وساخر لأحداث رواية "انهيار مصنع الفن المعاصر" للفنان والكاتب المصري أحمد شوقي حسن، الصادرة عام 2022، والتي اتخذت من "تاون هاوس" محوراً لسردها. وكأن الواقع قرر أن يعيد كتابة تاريخ هذه المؤسسة، ولكن هذه المرّة، ليس من خلال الفن، بل على مائدة طعام رمضانية، ليكمل بذلك سرديةً تبدو أقرب إلى الخيال منها إلى الواقع.


* كاتبة من مصر
 

المساهمون