استمع إلى الملخص
- في القاهرة، مكتبات مثل "مكتبة الديوان"، "كتب خان"، و"ببلوتيك" تقدم تجربة ثقافية غير نمطية، مع فعاليات ثقافية متنوعة تعزز التواصل بين القراء والكتاب.
- رغم التحديات مثل التفاعل السطحي وارتفاع الأسعار، تظل هذه المكتبات استجابة ذكية لاحتياجات المجتمع العصري، حيث تجمع بين المتعة والمعرفة وتعيد صياغة مفهوم القراءة.
في زمنٍ تتسارع فيه التكنولوجيا وتُختصر المعرفة عبر شاشة الهاتف، يظلّ لبعض الأماكن سحرٌ جاذب، من خلال وجود مساحة هجينة لا تقتصر على قراءة الكتب أو احتساء القهوة، بل تُقدّم تجربةً مُختلفة لزوّار المكان، إذ يتحوّل ارتياد المكتبة التقليدية من فعل فردي صامت لشراء كتاب والمغادرة بسرعة، إلى نمط ثقافي مختلف يُغري العقل ويُرضي الحواس، من خلال محاكاة عصرية لأماكن تؤاخي بين المكتبة والمقهى.
كتاب وقهوة
تعود فكرة الجمع بين المكتبات والمقاهي إلى القرن الثامن عشر في أوروبا، إذ ظهرت "المقاهي الأدبية" مراكزَ تجمُّع للمثقفين والفنانين لتبادل الأفكار والنقاشات أثناء الاستمتاع بالمشروبات. في العصر الحديث، بدأت المكتبات في دمج المقاهي داخل مبانيها في أواخر القرن العشرين، ففي الثمانينيات والتسعينيات، مع تزايد شعبيّة القهوة، بدأت بعض المكتبات في تقديم خيارات قهوة متنوّعة، وأحياناً بالتعاون مع مقاهٍ معروفة. وبحلول الألفية الجديدة، بدأت العديد من المكتبات في تكوين مقاهيها الخاصة، هذا التحول كان جزءاً من سعي المكتبات لتوفير بيئات أكثر جاذبية وتنوعاً لروادها، ما يعزّز دورها مراكز مجتمعيةً متعدّدةَ الوظائف تجمع بين الثقافة والاسترخاء والتواصل الاجتماعي.
فكرة عصرية
في مدينة القاهرة، لم يعد المكان الذي يجمع بين دفء المقهى ووقار المكتبة مقتصراً على مكانٍ بعينه، بل ظهرت مكتبات عدّة تحتفي بحيوية التواصل الحداثي مع القرّاء، وتمتد فروعها إلى أكثر من منطقة. ربما لأنّ المكتبات التقليدية تبدو مملّة لفئة الشباب؛ وعند دمجها مع المقهى، تتحوّل إلى بيئة جذّابة تُشجّع على القراءة. هذا النوع من المكتبات يقدّم الثقافة بطريقة غير نمطية، أقرب لأسلوب التفاعل في الحياة الرقمية، إذ تمتلك هذه المكتبات صفحات على وسائل التواصل الاجتماعي، يتمكن عبرها رواد المكتبة من متابعة الفعاليات وتوقيعات الكتب والمناقشات، ما يتيح للقراء والكتّاب فرصة للتواصل والتفاعل الواقعي والرقمي، سواء بالحضور أو متابعة البث المباشر.
تقديم الثقافة بطريقة غير نمطيّة أقرب لأسلوب الحياة الرقمية
يمكن للعابر في حي الزمالك على رصيف شارع 26 يوليو رؤية الواجهة الزجاجية التي تفصل "مكتبة الديوان" عن هدير السيارات وصخب المارة، ما إن تدخل إلى قلب المكتبة، حتى تنفصل عن العالم الخارجي الهادر، يحِلُّ سكون رمزي، مع صوت موسيقى تختلف حسب أوقات النهار، بين الكلاسيكية والحديثة. تنتشر في المكان طاولات صغيرة تكفي شخصين فحسب، وفي الجانب الأيمن من المكتبة تفوح رائحة القهوة من ركن صغير.
"مكتبة الديوان"، التي ظهرت عام 2002 بفرعها الأول في الزمالك، تتضمن مساحة جيدة تجمع بين المكتبة والمقهى، يجد كثيرون فيها متنفّساً يُبعدهم عن ضغط الحياة، إذ يمكنهم القراءة، والدراسة، أو حتى العمل بإنتاجية أكثر. قامت الأختان هند ونادية واصف بتأسيس الفكرة، ثم انضمت إليهما صديقتهما نيهال شوقي. توسع مشروع هؤلاء السيدات، ولم يعد فرع الديوان في الزمالك هو الوحيد، فقد انتقلت هذه الفكرة لتنسحب إلى فروع كثيرة، تنتشر في مدينة 6 أكتوبر، وفي وسط البلد، وفي مصر الجديدة، وغيرها من الأماكن. والجدير بالذكر أيضاً أنّ "مكتبة ديوان" قامت مؤخراً بإطلاق دار نشر "ديوان"، تحت إدارة ليال رستم والكاتب أحمد القرملاوي.
أما مكتبة "كتب خان"، فقد أسّستها الناشرة كرم يوسف عام 2006، وهي أوّل مكتبة في حي المعادي، تجمع بين المكان الهادئ وفنجان قهوة وكتاب مع صوت موسيقى عذبة وحديقة ظليلة. تحكي يوسف عن فكرة المكتبة بأنها جاءت من حاجتها الشخصية خلال أيام الإجازة إلى وجود مكان هادئ يمكنها فيه أن تقرأ وتسمع الموسيقى بهدوء مع فنجان من القهوة، لذا أسّست "كتب خان" التي حققت فيها حلمها الشخصي. وأدت المكتبة دوراً ثقافياً مهماً إلى جانب الدمج بين المقهى والمكتبة، كونها تميّزت منذ بدايتها بفكرة وجود دار نشر، فقدمت للوسط الثقافي الكثير من المبدعين من الكتّاب العرب والأجانب عبر الترجمات، إلى جانب تقديم ورشات عدّة للكتابة الإبداعية، أنتجت جيلاً حديثاً من الكُتّاب الشباب.
مكتبة وغاليري
مكتبة حديثة أخرى هي "ببلوتيك"، بفرعيها في مدينة 6 أكتوبر، وفي التجمع الخامس، التي اختارت منذ البداية أن تكونَ ضمن المدن الجديدة، نظراً إلى افتقار هذه الأماكن إلى المكتبات عموماً، وإلى هذا النوع من المكتبات تحديداً. وافتتحت المكتبة فرعها الأول في شهر يناير/ كانون الثاني من عام 2022، وترجع فكرة تأسيسها للأخوين نهى وعمرو بركات.
لعلّ ما يميز "ببلوتيك" هو التشكيل الهندسي الذي يفصل بين المكتبة والمقهى عبر حاجز زجاجي بسيط، إلى جانب وجود غاليري واسع في فرع أكتوبر لتقديم عروض لأعمال فن تشكيلي ومنحوتات، ما يجعل المكتبة مكاناً جذاباً يُحاكي مختلف الأذواق. قدّمت المكتبة مؤخراً معرضاً للفنان محمد عبلة، ومعرضاً آخر لأفيشات أبرز أفلام السينما المصرية، والعديد من المعارض الأخرى.
لقد أصبحت هذه المساحات، خصوصاً في المدن الكبرى مثل القاهرة، علامة من علامات الهوية الثقافية الجديدة التي لا تفصل بين الفن والقراءة، إنّها بيئة ثقافية تجمع أجيالاً مختلفة تحت سقف واحد، وتمنح الشباب على وجه الخصوص بديلاً هادئاً عن صخب المولات والمقاهي التقليدية، حيث يمكنهم حضور جلسة نقاش حول كتاب أو فيلم، أو حتّى ورشة صغيرة للرسم أو الكتابة، كما أن حضور هذه المساحات في أحياء مختلفة، كالزمالك والمعادي و6 أكتوبر والتجمع الخامس، يعكس توسّعاً في مفهوم "الفضاء الثقافي"، الذي لم يَعُد حكراً على وسط البلد، بل بات جزءاً من الحياة اليومية للأحياء السكنية الحديثة.
واللافت أن الأجيال الجديدة بدأت تربط الكتاب بالمزاج الجيّد، لا بالواجب الأكاديمي، وبدأت صور القراءة تُعاد صياغتها في خيال الشباب، لا بوصفها فعلاً معرفياً جامداً، بل لحظة تأمل، أو حتى استراحة من العالم الرقمي. وهذا، بحدّ ذاته، إنجاز ثقافي يستحق التوقف عنده.
روح المقهى القديم
في مقابل هذا، تبدو المقاهي الثقافية العتيقة التي اعتاد المثقفون من الأجيال الأقدم ارتيادها في وسط البلد، مثل "الجريون"، و"مقهى ريش"، و"زهرة البستان"، و"الحميدية"، وغيرها من المقاهي الثقافية، أماكن تفاعلية تُعبّر عن الروح المصرية المحلية.
تنقسم هذه المقاهي إلى نوعين؛ نخبوية وشعبية، وكلاهما يتجاوران مكانياً على نحوٍ مُحيّر، بل من الممكن رؤية ذات الوجوه تنتقل ببساطة من هنا إلى هناك. ويتفاعل روادها فيما بينهم مباشرة وبصخب، فقد يعلو صوتهم وهم يتحدثون عن ديوان شعر، أو ينتقدون إحدى الروايات الفائزة بجائزة لا تستحقّها، أو يختلفون ويتفقون في شأن قضية ثقافية ما.
أما نموذج "المكتبة - المقهى" فإنّه لا يُمثّل المكان الأنسب للجدالات الثقافية اليومية والمباشرة، كما يرى البعض أنّ التفاعل الثقافي فيه لا يخلو من بعض التحديات المغايرة، كأن يتحول المكان من مساحة معرفية إلى مجرد "لوكيشن" للتصوير أو اللقاءات السريعة، ويصبح الكتاب جزءاً من الديكور أكثر من كونه هدفاً للزيارة.
هناك أيضاً خطر التفاعل السطحي مع الثقافة، إذ يكتفي قسم من الزائرين بالوجود في المكان بدون الانخراط الفعلي في القراءة أو الحوار. علاوة على ذلك، قد تؤدي الأسعار المرتفعة لبعض المشروبات أو الخدمات إلى استبعاد شريحة من الزوار، وخلق نوع من النخبوية غير المقصودة.
لكن في مطلق الأحوال، ووفق متغيّرات الحياة العصرية، لم تعد مكتبات المقهى مجرد صيحة عابرة، بل هي استجابة ذكية لاحتياجات المجتمع العصري، الذي يسعى إلى الجمع بين المتعة والمعرفة، وبين التواصل الاجتماعي والتأمل الفردي. إنها أماكن تحترم خصوصية الزائر، وتمنحه تجربة متكاملة تبدأ بكوب قهوة، وتنتهي بفكرة جديدة، أو كتاب يُغيّر نظرته للعالم. وربما، في زمن يغمرنا فيه كل ما هو رقمي وسريع، تصبح تلك المساحات الهادئة المختلطة بروائح الورق والبُن ضرورية، لا بوصفها ترفاً ثقافياً، بل حاجةً إنسانيةً وفنيةً حقيقية.
* روائية وناقدة لبنانية مصرية