استمع إلى الملخص
- تواجه الترجمة العربية تحديات مثل العولمة والذكاء الاصطناعي، وغياب نقابات تحمي حقوق المترجمين. تؤكد منال على أهمية المحرر في تحسين النصوص، وتشدد على ضرورة علاقة ثقة مع الناشر واختيار النصوص بعيدًا عن الأهداف السياسية.
- تعتبر منال الترجمة عملية إبداعية تتطلب من المترجم أن يكون كاتبًا، وتدعو لتعزيز مشاريع الترجمة بالتعاون مع مؤسسات دولية ومحلية، ملتزمة بالأمانة والدقة في الترجمة وتأثيرها في الواقع العربي.
تقف هذه الزاوية مع مترجمين عرب في مشاغلهم الترجمية وأحوال الترجمة إلى اللغة العربية اليوم. "من حق الإنسان المشروع العيش بكرامته واستعادة أرضه السليبة من الاستعمار بوجهيه القديم والحديث" تقول المترجمة والكاتبة السورية منال محمد خليف لـ "العربي الجديد".
■ ما الهاجس الذي يشغلكِ هذه الأيام في ظل ما يجري من عدوانِ إبادةٍ على غزّة؟
- ما يحدثُ في غَزّة كارثة ومأساة إنسانية كبيرة، والجميع معني بها، ويمكن وقف هذا الظلم وتيار الدّم المتدفّق بوسائل الإنسان التي أنتجها عبر تاريخه، من فن وأدب وشعر ودراما، وبتفكيره العقلاني الذي يرفض العنف بكلِّ أشكاله، ويؤمن بالحق المشروع للإنسان في العيش بكرامته واستعادة أرضه السليبة من الاستعمار بوجهيه القديم والحديث، ولا يشغلني في ظلّ ذلك سوى تطويع قلمي وفكري لرفع الظلم وتحقيق إنسانية الإنسان.
■ كيف بدأت حكايتكِ مع الترجمة؟
- بدأتْ حِكاياتي مع الترجمة في المراحل الدراسيّة الأولى، عندما أصبحت اللغة عشقًا، والهواية بحثًا عن المعنى والمَغزى في ما تحمله الثقافات الأخرى من كنوزٍ معرفيّةٍ مُختلفة. وأكثر ما كان يستهويني ترجمة المقالات العلميّة القصيرة من الإنكليزيّة إلى العربيّة، لكن هذه الهواية سرعان ما أصبحت حاجة مُلحّة وضرورة لا بدَّ منها عندما درست الفلسفة، ولمستُ خَللًا في العديد من النصوص الفلسفيّة، وأدركتُ أن الخطأ فيها يعود إلى الترجمة، وأنَّ من واجبي أنْ أعيد ترجمتها بنفسي؛ لذلك انصرفت إلى تعلّم اللغتين الألمانية واللاتينيّة وتطوير لغتي الإنكليزية، ولا غاية لي سوى فهم النص الفلسفي وتفكيكه واستيعابه، ثم إعادة بنائه. وكانت أولى ترجماتي في فلسفة توماس كون.
■ ما هي آخر الترجمات التي نشرتِها؟ وماذا تترجمين الآن؟
- آخرها كان ترجمة للجزء الثاني من كتاب "نظام الطبيعة" للفيلسوف الفرنسي الألماني بارون دي هولباخ، عن دار "أبكالو" في العراق، صدرت بداية هذا العام 2024. ثم تلتها ترجمة لكتاب بعنوان "النعيم والجحيم: العدالة الإلهية بحسب الأرواحية" للكاتب والمترجم الفرنسي آلان كاردك، الذي قدم وصفًا جديدًا لما ينتظرنا بعد الموت، والعدالة الإلهية من وجهة نظر الأرواحية، وقد صدر هذا الكتاب عن "دار نينوى" في دمشق هذا العام أيضًا. يوجد كتابان قيد النشر من العربيّة إلى الإنكليزيّة، سيصدران قريبًا عن "بيت الفلسفة" في الفجيرة. وأعمل حاليًا على ترجمة مجموعة من المقالات في اللاهوت الطبيعي والفلسفي وطبيعة النفس والروح لغاية تأليف عمل جديد لي.
■ ما هي، برأيك، أبرز العقبات في وجه المترجم العربي؟
- تُمثّل العولمة بأشكالها المختلفة عَقَبة أساسيّة أمام المترجم العربي، وأبرز مظاهرها هي العولمة الثقافيّة أو هندسة التحكّم الاجتماعي العالمي، وأداتها المتمثّلة بالذكاء الاصطناعي؛ الذي يضع أمام المترجم العربي مسؤولية امتلاك الحكمة والخبرة الكاملة في كيفيّة التعامل معه. وتظهر العقبة الثانية في النشر الربحي لبعض المؤسسات التي تركّز على ترجمة مسائل تخص التقنيات الحديثة، والأدب، والفن مقابل البحوث والدراسات الفلسفيّة التي تحتاجها أمتنا العربيّة اليوم. أما العقبة الثالثة فهي غياب نقابات تحمي حقوق المترجمين وتنظم عملهم.
■ هناك قول بأن المترجم العربي لا يعترف بدور المحرِّر، هل ثمة من يحرّر ترجماتك بعد الانتهاء منها؟
- لا شكَّ أنَّ للمُحرِّر دورًا مُهمًّا في تحسين النّص وتبسيطهِ وإصلاح الأخطاء فيه، وكنتُ أتمنّى أن يرافقني في كلِّ ترجماتي، ويكون القارئ الثاني لها. لكنَّ طبيعة الترجمة الفلسفيّة تفرض على المُترجم أن يكون مُحرِّرًا ومُدَقِّقًا لنصّهِ في الآن مَعًا، لكونِهِ يستطيعُ صياغة هذا النّوع من النّصوص التي قد تبدو للمُحَرِّر مُبهمة بما تحمله من مصطلحاتٍ جديدة. فالمترجم وحده قادر على نقلِ ما يتضمّنه هذا النّص من حالاتٍ شعوريّة وذهنيّة، ويتفرّد بأسلوبٍ يُميّزه هو وحده ليخلق نصًا فلسفيًّا جديدًا يحمل روح النص الأصلي.
■ كيف هي علاقتك مع الناشر، ولا سيما في مسألة اختيار العناوين المترجمة؟
- العلاقة مبنيّة على الثقة والانسجام الفكري والمعرفي، ولم أتعامل إلى اليوم مع ناشرٍ فرض عليّ عنوانًا مُعيّنًا. كانت العناوين دائمًا موضوع مناقشةٍ وبحثٍ بيننا وحوار متبادل. وكنت أفاجأُ في كثيرٍ من الأحيان بالثّقافة العالية التي يمتلكها الناشر ومدى ثقته برأيي في بعض المؤلفات الفلسفية التي لم يتطرق إليها أحد، كحال كتاب "الإله المجهول" لأنطوني كيني، الصادر عن دار "أبكالو". وكان البحث عن مضمون الكتاب ومدى أهميته المعرفية هما جوهر العمل عند الناشر.
■ هل هناك اعتبارات سياسية لاختيارك للأعمال التي تترجمينها؟ وإلى أي درجة تتوقفين عند الطرح السياسي للمادة المترجمة أو لمواقف الكاتب السياسية؟
- اختيار النّص الفلسفي منفصل عن أيِّ هدفٍ سياسيّ، ومبنيّ على مبدأ "فصل الدولة عن العلم". كما أنَّ الكتب السياسيّة تُعبّر عن آراء أصحابها، واحترام الرأي واجب. فإن قدم المؤلف رأيًا محمودًا فله أجره، وإن خالفني فهو معذور، ولا يفسد الاختلاف في الرأي للود قضية. وقد يحدث في بعض الأحيان أن يعبّر المؤلف عن أفكاره بخلق شخصيّاتٍ غير موجودة لأغراض سياسيّة، وعندها يكفي أن أشير في الحواشي إلى توضيح مقاصده.
■ كيف هي علاقتك مع الكاتب الذي تترجمين له؟
- لا يمكن للمترجم أن يبدأ دون التعرف على كاتب العمل؛ لأنَّ النّص المُتَرجَم يتضمن ثلاثة أقطاب تُكمّل بعضها بعضًا، وهي: المؤلف، والذي يجسد ما يدور في ذهنه من أفكار ويجمع كلمات نصه؛ والمُتَرجم، الذي يقع على عاتقه فهم المؤلف ومعرفة مذهبه ولغته وعصره لكي يتمكن من نقل النّص بأمانة؛ وأخيرًا القارئ، الذي سيقرأ النص وكأنه أمام المؤلف مباشرة. وهذا لا يتحقق إن لم يكن المترجم على تواصل مع المؤلف، إمّا مباشرةً إذا كان المؤلف حيًا، مما يسهل فهم العديد من المعاني التي يحملها النّص، أو يكون التواصل غير مباشر إذا لم يكن المؤلف حيًا، وهنا يرافقه المؤلف روحيًا إلى أن ينتهي من العمل. هذا كان حالي مع ترجمة كتاب "النعيم والجحيم"، الذي مكَّنني من أن أعيش حالة روحية خاصة مع المؤلف وكل الشخصيات التي تضمنها العمل.
■ كثيراً ما يكون المترجم العربي كاتباً، صاحب إنتاج أو صاحب أسلوب في ترجمته، كيف هي العلاقة بين الكاتب والمترجم في داخلك؟
- لا يمكن لك أن تتحدث عن مترجم إن لم يكن كاتبًا في الأساس، فالمطلوب ليس مجرد نقل النّص من لغةٍ إلى أُخرى، بل كتابة نَصٍ جديد يعكس روح المُترجم نفسه وشخصيّته. كل نص يُترجَم يفتحُ آفاقًا جديدة للمترجِم، تُمكّنه من ابتكار مؤلفات مختلفة عما سبقها. وما كان للفلاسفة حاليًا أن يُقدِّموا ما قدَّموه لولا ترجمتهم لأعمالٍ سابقة عليهم، فقد كانت الترجمة دائمًا جسرًا للمعرفة والإبداع، تُثري عقول المترجمين وتمنحهم أدوات لإنتاج رؤى وأفكار جديدة، لتصبح الترجمة فعل خلق وإبداع بقدر ما هي فعل نقل.
■ كيف تنظرين إلى جوائز الترجمة العربية على قلّتها؟
- الجائزة تكريم معنويّ للمترجم، وتقدير لجهوده المبذولةِ وتحفيز له لتقديم عمل يتميز بالجودة والدقة. كما أنّها تعزّز التبادل الثقافي عبر الترجمة وتشجّع دُور النشر على استقبال الأعمال المترجمةِ الحديثة، وخاصّة إذا كانت الجائزة مخصَّصة للمترجمين الجُدد. كما يجب أن تكون الجائزة بعيدة عن أيّ تحيّز أو مصلحةٍ شخصيّة، مِمّا يُعزّز من مصداقيتها ويضمن دعم المترجمين الموهوبين والمبدعين.
■ الترجمة عربياً في الغالب مشاريع مترجمين أفراد، كيف تنظرين إلى مشاريع الترجمة المؤسساتية؟ وما الذي ينقصها برأيك؟
- الفرد جزء لا يتجزّأ من المجتمع والمؤسَّسة الحاضنة له، وما تفرضهُ هذه المؤسَّسة ناجمٌ أساسًا عن حاجة الفرد. لذلك، لا يوجد تعارض بينهما، ويمكن للمشاريع المؤسَّسية أن توفّر الموارد لدعم العمل المُتَرجَم وفريق عمل لإنجازه بسرعةٍ أكبر، مما يخلق تنافسًا بين المترجمين الأفراد. لكن ما ينقصُ بعضَ هذه المشاريع هو التحدّي الدائم لما يفرضه عليها الذّكاء الاصطناعي والتمويل المستمر من قبل الحكومات، والانفتاح أكثر على مختلف الثقافات، والموضوعيّة في اختيار الأعمال والمُترجمين بَعيدًا عن المواقف السياسيّة للمترجم. كما أنّها تفتقر إلى تعزيز التعاون مع مؤسسات دوليّة ومحليّة، وتقديم الحوافز الدائمة لمترجميها وتشجيعهم، وتنظيم مؤتمرات وندوات تغطي آخر ترجماتها.
■ ما هي المبادئ أو القواعد التي تسيرين وفقها كمترجمة؟ وهل لك عادات معينة في الترجمة؟
- لكلّ عملٍ مبدأ وقاعدة للوصول إلى الجودة المطلوبة، وأهمها الأمانة في الحفاظ على معنى النّص وفهم المذهب الذي ينتمي إليه كاتبه والغاية التي أراد إيصالها، والحفاظ على مصطلحات المؤلّف الخاصة، وقراءة كلّ الأعمال التي استخدمها في عملهِ قبل البدء بترجمته، والحفاظ على سريّة العمل حتى صدوره، والحرص على إعطاء العمل الوقت اللازم له. أما بالنسبة للعادات التي أتبعها للوصول إلى ترجمة جيّدة ودقيقة فهي: قراءة النّص قبل ترجمته، وإعداد قاموس خاص بمصطلحاته لتوحيدها لاحقًا، ثم أضع جدولًا زمنيًّا لبدء العمل ونهايته، وأعتمد على ترجمة العمل على مراحل، تبدأ بالإدراك ثم الاستيعاب وأخيرًا الفهم، ومراجعته عدّة مرات بحيث يظهر بصورة جديدة.
■ كتاب أو نص ندمت على ترجمته ولماذا؟
- النّدم يتعلّق بسوء الاختيار، لكنَّني لم أترجم عَملاً من دون اختيار مسبق؛ لذلك لا أندم على أيّ كلمة كتبتها، طالما أنّها قادتني إلى كتبٍ أخرى وعرَّفتني على مؤلّفين جدد. وفي كل عمل عشت حالة مختلفة.
■ ما الذي تتمنينه للترجمة إلى اللغة العربية؟ وما هو حلمك كمترجم؟
- أتمنّى أن تُقدّم جميع الأعمال باللغة العربيّة وتبتعد عن اللغة المحكيّة. ومِمّا لا شكَّ فيه أن متطلبات النص تستدعي التبسيط، ولكن الكثير من مفردات اللغة العربيّة تنبغي إعادة إحيائها ضمن نصوصنا، لكي تتعلمها الأجيال اللاحقة. ونحن في مجتمعاتنا نواجه زحفًا للغة العاميّة، ولا يمكن محاربتها إلا بوعي أهمية اللغة العربيّة. أما حلمي كمترجمة فهو أن يكون لترجماتي تأثير على أرض الواقع، وليس القراءة فقط. هناك أعمال قدّمتُها غيّرت نظرتنا إلى الكثير من الأمور التي تخص ديننا، وعاداتنا، وتقاليدنا، ورؤيتنا للحياة والموت، وربما نَعمنا بالسعادة التي كنا نحلم بها، وأدركنا خطورة العلم على رفاهية البشريّة، وضرورة الحرص على استخدام الجانب الإيجابي منه.
بطاقة
باحثة ومترجمة سوريّة من مواليد مدينة درعا عام 1978 تقيم حاليًّا في دمشق. حاصلة على دكتوراة في الفلسفة باختصاص المنطق والإبستمولوجيا من "جامعة دمشق"، ودبلوم في الترجمة. صدرت لها العديد من من المقالات المؤلَّفة والمُتَرجمة، إضافة إلى مؤلّفات وكتب مترجمة من العربية إلى الإنكليزية، ومن الإنكليزية والفرنسية والألمانية إلى العربيّة. راجعت وحقَّقت العديد من الكتب. من ترجماتها: "الدليل الوحيد الممكن لإثبات وجود الله" لـ إيمانويل كانط (2020)، "نظام الطبيعة" لـ بارون دي هولباخ ( ج1: 2021، ج2: 2024)، "إله الفلاسفة" لـ أنتوني كيني (2022)، "الإله المجهول" لـ أنتوني كيني (2023)، "النعيم والجحيم: العدالة الإلهية بحسب الأرواحية" لـ آلان كارديك (2024). صدر لها أيضًا: "فلسفة بيتر أبيلارد، جزء من كتاب نقد الحضارة الغربية" (2024)، و"ضد العقل" (2022)، و"ما الإبستمولوجيا" (2024).