Skip to main content
مفكرة المترجم: مع عبد العزيز العيادي
العربي الجديد ــ صفاقس
عبد العزيز العيادي

تقف هذه الزاوية مع مترجمين عرب في مشاغلهم وأحوال الترجمة إلى اللغة العربية اليوم. "دخلت عالم الترجمة للردّ على المُقاولين ممّن يتصدّون لها دون أن يتقنوا لسان النص ولا حتّى لسانهم"، يقول المترجم التونسي، في حديثه إلى "العربي الجديد".


■ كيف بدأت حكايتك مع الترجمة؟
- لم أدرس الفلسفة باللسان العربي؛ كانت الفرنسية لغة الدراسة. اجتهدتُ كثيراً كي أحسم خصومة الألسن. أرى أنني قد دخلتُ اللسان العربي دخول غريبٍ رغم أنني أتحدّثه يومياً، كما أنني غريب في اللسان الفرنسي حتى ولو امتكلتُ المعرفة من خلاله. لسنوات، جرّبتُ اللسانين عبر الكتابة الفلسفية، ولي معرفة قليلة باليونانية واللاتينية والألمانية والإنكليزية، وهي أدوات أستعملها في دروسي. وبما أني أعتبر أن الاشتغال على الفلسفة اليوم يحتاج إلى ثلاث خصال: الترجمة ومعرفة تاريخ الفلسفة والتفكير بشكل حرّ، لذا فإن اللقاء بالترجمة كان حتمياً. كما دفعني إلى ذلك الردُّ على بعض مُقاولي الترجمة ممّن يتصدّون لها دون أن يتقنوا لسان النص ولا حتّى لسانهم. وبعضهم ممّن يجد نفسه أمام مفهوم لا يستطيع التغلّب عليه فيتجاوزه. في مثل هذه الوضعيات، كنت أقلّب المفاهيم على أكثر من وجه حتى أبلغ الدلالة الأقرب إلى روح النص. بإيجاز، أتيتُ إلى الترجمة ضمن محاولة لإثراء اللسان العربي. 


■ ما هي آخر الترجمات التي نشرتها وماذا تترجم الآن؟
- آخر ترجماتي كتاب "صنيع الله" للفيلسوف الإيطالي جورجيو أغامبين، و"أوديب مضادّاً" لجيل دولوز وفيليكس غواتاري، وبعدها انشغلتُ بكتابين آخرين: "اعترافات اللحم" لميشيل فوكو و"ألف مسطّح" لجيل دولوز وفيليكس غواتاري.


■ ما هي برأيك أبرز العقبات في وجه المترجم العربي؟
- أوّلاً، عقبات ذاتية إيطيقية، أو ما أسمّيه بضرورة توفّر الحياء والتواضع، لأننا نجد الكثير من قلّة الحياء، حين يسمح بعض المترجمين لأنفسهم بأن يقدّموا أعمالاً مغلوطة، مليئة بالأخطاء، بمعانٍ معكوسة ودلالات مضطربة. نحتاج، من أجل إصلاح حال الترجمة، إلى الكثير من الحياء والتواضع والصدق، ولا بدّ للمترجم أن يمتلك حسّ النقد الذاتي ومراجعة كفاءاته وقدراته على التطويق والمعرفة الدقيقة باللسانين المعنيّين، والقدرة على إظهار الفويرقات الصغرى. أعتقد أنه يجب التخلي عن الجانب المقاولاتي الذي اخترق الترجمة، فباتت مدخلاً يؤدّي إلى المكاسب المالية. فإذا كنا نترجم ونحن جهلة أو كنا نترجم ونحن على قلّة حياء، فإن جهد الترجمة ضائع. هذا في ما يتعلّق بالمترجم. وهناك عوائق ذات صبغة جماعية، منها عدم وجود مؤسّسات مختصّة ولائقة وذات مصداقية تتكفّل بما يحيط الترجمة من أدوار، كالنشر والتدقيق والتحقيق وشراء الحقوق، ولا بدّ من مؤسّسات تحكيم لنقطع دابر الترجمات المغشوشة.


■ هناك قول بأن المترجم العربي لا يعترف بدور المحرر. هل ثمة من يحرّر ترجماتك بعد الانتهاء منها؟ 
- مرّرتُ ترجماتي إلى مراجعين، والمترجم الذي لا يعترف بأهمّية القارئ ما قبل الطبع ينطلق من تعالٍ أو محاولة إخفاء نقص أو خوف من النقد المبكّر لأعماله. المراجعة ضرورية، شرط أن يكون المراجع كفؤاً وندّاً للمترجم، وعارفاً بالاختصاص، فلا معنى أن يراجع ترجمة نص فلسفي مَن هو جاهل بالفلسفة، لأنّ مراجعته ستُفسد النص ومقاصد المترجم ومقاصد النص الأصلي.


■ كيف هي علاقتك مع الناشر، لا سيما في مسألة اختيار العناوين المترجمة؟
- لم أذهب إلى ناشر، ولم يحدث أن خاصمتُ ناشراً. هم مَن يهاتفونني أو يكتبون إليّ عبر بريدي الإلكتروني، ومَن تعاملتُ معهم أجد أنهم يقدّرون جهدي. وحول الاقتراحات، فمرّة أنا مَن أقترح على الناشر عنواناً أو مفكّراً، ومرّةً يقترح هو.


■ هل هناك اعتبارات سياسية لاختيارك للأعمال التي تترجمها، وإلى أي درجة تتوقف عند الطرح السياسي للمادة المترجمة أو لمواقف الكاتب السياسية؟
- لا أترجم لليمين إطلاقاً. لا أترجم نصّاً تسكنه الرجعية أو التعصّب، أو لمن أعتقد أنهم يُنتجون جهلاً مقدّساً. لا أخفي انتماءاتي اليسارية، لكنّني لستُ متحزباً، ولا أكون تابعاً. دافعتُ عن شيئين وعنهما تتفرّع بقية خياراتي: دافعت عن المعنى وعن الحرّية. لا يمكن لمن وضع هاتين القيمتين كمعيار أن يساهم في نشر أفكار تروّج للجور واللامساواة، أو كتابات هي جزء من ألاعيب الهيمنة والاستبداد والترويج للدوغمائية.


■ كيف هي علاقتك مع الكاتب الذي تترجم له؟
- عرفتُ بعض مَن ترجمتُ لهم عبر اللقاءات، لكنّ أغلبية من نقلتهم إلى العربية كانت لي معهم صِلات فكرية، وجدانية، أسلوبية. والأسلوب هو عندي ليس مسألة تقنية، وإنما إجابة عن سؤال خطير: كيف نتعاطى مع اللسان؟


■ كيف تنظر إلى جوائز الترجمة العربية؟
- لستُ مع ولست ضدّ. لكنْ من المؤكّد أنّ المترجم لا ينبغي له أن يترجم ونُصب عينيه جائزة، فهذا يندرج ضمن المقاولات الثقافية. على مَن يترجم أن يضع نُصب عينيه حقّ الضيف الذي يأتي به إلى لغته.


■ الترجمة عربياً في الغالب مشاريع مترجمين أفراد، كيف تنظر إلى مشاريع الترجمة المؤسساتية وما الذي ينقصها برأيك؟
- لا أعتقد بوجود مؤسّسات مختصّة في الترجمة في عالمنا العربي. انظرْ في من يعمل في ما يتوفر من مؤسسات وستجدْ أغلبيّتهم ممّن لا علاقة لهم بالترجمة. يُفترض بالمؤسسة التي تُعنى بالترجمة أن تكون فضاءً يحضر فيه أصحابُ الكفاءات، ولكنّنا نجد أصحاب الولاءات والبذاءات، ذلك أنّ الولاء بذيء. وفي النتيجة، لن نجد إنتاجات مؤثّرة وفاعلة تشكّل علامات في تغذية المعرفة العربية من الثقافات الأخرى. 


■ ما هي المبادئ أو القواعد التي تسير وفقها كمترجم، وهل لك عادات معينة في الترجمة؟
- أبدأ بقراءة النصّ بانضباط، في محاولة للإصغاء لما يعتمل فيه من الداخل لساناً وكياناً ووجداناً. وأعمل بين حدّين رسمهما التراث العربي للترجمة بدءاً من القرن الثالث للهجرة: من ناحية، هناك الالتزام بالنصّ حدّ الحرفية، وفي المقابل، هناك ترجمة المعنى دون شرط. أنا أنطق من وعي بأنه عليّ ألّا أُفرّط في كليهما، فلا أتشدّد في دقّة الجملة إذا كانت الحرفية ستحجب الفكرة التي يودّ المؤلّف أن يؤدّيها، ولا أزيد على مقولة الكتاب من عندي مراعاةً لانتظارات ثقافتنا. حسبي أن أنقل لساناً وأنقل مناخات، أنقل أوساطاً، وأنقل فكراً حضارياً، وهذه المطامح تفرض عليّ أن أعمل أيضاً على أدبية النص الفلسفي المترجم.


■ كتاب أو نص ندمت على ترجمته ولماذا؟
- بما أنني لا أترجم تحت الطلب، ولا ضمن الرغبة في الشهرة أو تكديس المنجزات، فإنني أتروّى في الاختيار. وهذا يقيني من أن أندم لاحقاً. بل أكثر من ذلك، لو أوتي لي أن أترجم ما سبق أن ترجمته ثانية لفعلتُ، فلا تكون الترجمة ترجمةً إلّا بكونها قابلة لإعادة الترجمة.


■ ما الذي تتمناه للترجمة إلى اللغة العربية، وما هو حلمك كمترجم؟
- أتمنّى أن يُقبل على الترجمة القادرون عليها والمؤهّلون لها. أتمنّى للترجمة أن تلعب دورها ببساطة، أي أن تُضيف للثقافة العربية وللوجدان والذوق وتقنيات الكتابة والتفكير. وعلى المترجمين أن ينطلقوا من قناعة مفادها أنّ القرّاء العرب جديرون بكلّ ذلك.


بطاقة
مترجم وأكاديمي تونسي، أستاذ الفلسفة في "جامعة صفاقس". من أبرز ترجماته: "المنبوذ" و"صنيع الله" لـ جورجيو أغامبين، و"الأوحد وملكيّته" لـ ماكس شتيرنر، و"الفَرْق والمعاودة" لـ جيل دولوز، و"أوديب مضادّاً" لـ جيل دولوز وفيليكس غواتاري. وله من المؤلّفات: "إيتيقا الموت والسعادة"، و"ميشيل فوكو: المعرفة والسلطة"، و"مسألة الحرية ووظيفة المعنى عند ميرلوبونتي"، وصدر مؤلّفه الأخير هذا العام بعنوان "فلسفة الواقع".

الأرشيف
التحديثات الحية

المزيد في ثقافة