"معجم الدوحة التاريخي".. هل يصدُر مطبوعاً؟

18 فبراير 2025
المفكّر العربي عزمي بشارة مُحاضراً في المؤتمر الدولي الثالث لـ"معجم الدوحة"، مايو 2022
+ الخط -

استمع إلى الملخص

اظهر الملخص
- يُفضل نشر "معجم الدوحة التاريخي للغة العربية" رقمياً لتمكين التحديث المستمر للمعلومات بناءً على الاكتشافات الجديدة، مما يضمن دقة المعلومات وتحديثها بشكل دائم.
- توفر المنصة الرقمية ميزة الربط بين المفردات والجذور والمعاني، مما يسهل التنقل بين المعلومات وفهم العلاقات المعقدة بين الكلمات، وهو ما لا توفره النسخ الورقية.
- الطبيعة الديناميكية للمعرفة اللغوية تتطلب توفر المعجم رقمياً في كل زمان ومكان، مما يتيح مراجعة وتحديث المعلومات بشكل مستمر، بعكس النسخ الورقية المحدودة.

لماذا لا يصدُر "معجم الدوحة التاريخي لـ اللغة العربية" في كتاب مطبوع؟ أثار المفكّر العربيّ عزمي بشارة هذا السؤال في أحد ملتقيات "معجم الدوحة" مستنطقاً الأسباب التي حالت دون نشر هذا العمل ورقيّاً، بعدما انتهى مُحرِّروه من مرحلتَيه الأولى والثانية، اللتين تمتدّان من مطالع الكتابة العربيّة إلى نهاية القرن الخامس للهجرة/ الحادي عشر للميلاد.

إلّا أنّ الوقت لم يُسعف آنذاك صاحب "أن تكون عربيّاً في أيامنا" (2009) للتوسُّع في هذه القضيّة، فارتأينا الخوض فيها ليكون له فضلُ إثارة السؤال، ولنا محاولة مجاراة الأفكار التي ساقها عفوَ البديهة، عسانا نُحلّل وضعيّة صناعة القواميس التاريخيّة اليوم، ونرصد تحوّلات مناهجها ووسائلها في ظلّ الرّقمنة التي اكتسحت سائر مجالات النشاط الإنسانيّ، فقلبت المألوفَ من المعارف وطرائق إنتاجها بعدما صار الذكاء الاصطناعي يقود العقل البشريّ نحو المجهول. 

السَّبب الرئيس في إيثار نشر المعجم عبر منصّة رقميّة حيويّة، وليس في كتابٍ محدودٍ، هو ضرورة إجراء عمليّات تنقيح وتثبّت وتصحيح مستمرّة للمعطيات الواردة عن كلّ مفردةٍ، إلى أن يطمئنّ العقل إلى ما توصّلت إليه الأبحاث. فلا يَني المختصّون عن اكتشاف مصادر وموارد جديدة تسمح بالعودة إلى الموادّ المشروحة وتصويبها وتحيينها، الأمر الذي لا يتيسّر في الشكل الورقيّ بسبب محدوديّته وطبيعته الماديّة. وقد تتكاثر التصويبات حتى يكبر حجمُ الكتاب ويصير غير قابلٍ للحَمل والتّداول والاستخدام.

سؤال أوّلي سبق للمفكّر العربي عزمي بشارة أن أثاره

ومهما كان شكلُ الكتاب، فهو لن يسمح بتشغيل خاصّية نظام التعالق corrélation التي تتوفّر عليها المواقع الإلكترونيّة، والذي يُمكّن من الإحالة على الجذور المقابلة والأصول التأثيليّة وأسماء الأعلام والتّواريخ ودلالات الاشتراك والتّضاد وغيرها من المعطيات. إذ يسمح النّقرُ على أيّة أيقونة بالإحالة على ما يرتبط بها من النّظائر، وهو ما يبني معرفة بنيويّة بالظواهر الدلاليّة التي لا تُدرك حقائقُها إلا بوضعها ضمن نسق من العلاقات المنعقدة في ما بينها. 

فقد بات للمعلومات التي تشكّل لحمة أيّ مدخل معجميّ طابعٌ بنيويّ. وتترابط كلّ المداخل ضمن علاقات تماثليّة وخلافيّة، وحدَه الهيكل المُرَقْمَن ما يكفل الانتقال من عنصر لآخرَ ضمن تلك الشّبكة الافتراضيّة، وهو ما يستحيل فعله في الكتاب المرقوم. إذ تقتضي الطبيعة المنفتحة للمعرفة اليوم أن يكون المعجم متاحاً في كل زمان ومكانٍ، ولا يقتصر وجودُه في صيغة مُجلّدات مرصوفة على رفوف مكتباتٍ لا يرتادها إلا أهل الاختصاص. فلو طُبع "معجم الدّوحة" لكان مصيره، ربما، مصيرَ آلاف الأسفار الثاوية في الخزائن، في حين أنّه عبر منصّته المُيسّرة هذه "في مُتناول اليَد الآن وهنا"، كما يقول الفيلسوف الفرنسيّ ميشال سير.

ثمّة سببٌ آخر يتعلّق بطبيعة المصادر، ولا سيّما الخاصّة بالمرحلتَين الأولى والثانية التي لا تنفكّ تتمنّع فلا تبوح بأسرارها إلا بعد قرع الباب مرّاتٍ. فما ورد فيها من الشواهد يعكس المرحلة النّاضجة من استخدام العرب لتلك الكلمات وليس أوّل ظهور فعليّ لها في التّداول. فقد يعثر الدارسون على وثائق وشواهد أعتق تُشير إلى تواريخ أسبق لذلك الظهور، مما يكشف معنى مختلفاً فنضطرّ إلى تعديل تاريخ الورود الأوّل وتصحيح تحديده الزمنيّ وما بُني عليه من نتائج. 

المركز العريب - القسم الثقافي
تُتيح الرقمنة الانتقال بين عناصر المعجم بشكل أيسر

ومن المعلوم أنّ الحفريات لا تكاد تتوقّف في بلدان الجزيرة العربيّة. ولا تزال تطالعنا بين الفينة والأُخرى اكتشافاتٌ نَفيسة للأحجار والمخطوطات والأخشاب والعاديات، ممّا يدعو إلى تغيير بعض التواريخ ولو جزئيّاً، أو قد يطّلع الباحثون على استخدام أقدم للكلمات، ساعدت التقنيات الحديثة في تحقيبها بشكل أدقّ. وهو ما يمكن إضافته مباشرة على الموقع الإلكترونيّ لـ"معجم الدوحة التاريخيّ"، في حين يصعب ذلك في مَسنَدٍ مكتوب، إلّا إذا تصوّرناه في شكل طبعاتٍ مُحيّنة دوريّاً، مثل ما يحصل مع المعاجم الكبرى في فرنسا وإنكلترا. وقد يُقال إنّ تغييرات هامشيّة يمكن أن تُتَداركَ وتوضع في آخر الكتاب. يصحّ هذا الاعتراض لمّا كان نسق المعرفة بطيئاً، لكنّه مردودٌ حين تسفر الاكتشافات، بفضل وتيرتها المتسارعة، عن معارف تتحرّك باستمرار فتحرّكَ معها كلّ المنظومة المعرفيّة.

لا تُلائم الصيغة الورقية عمليات التنقيح والتصحيح المستمرّة

ومن جهة أُخرى، لا يتوقّف اللغويّون العرب عن اجتراح تعليلات نظريّة أكثر إقناعاً حول أثول الكلمات وأصولها الساميّة أو الأجنبيّة، فمن ذلك مثلاً التفسيرات المتعاقبة حول أصل كلمة "بريد" الذي نوقش في مقالات جامعيّة دون القطع برأيٍ نهائيّ حوله. فكلّ دراسة مُستجدّة في اللسانيّات العربيّة والتاريخ الدلائليّ للكلمات، قد تدفع إلى إعادة النّظر في المادّة وما جاء فيها وربّما تحويره جزئيّاً أو التخلّي عنه إن لزم الأمر. وتنطبق هذه الملاحظة بوضوحٍ على الجذور المشترَكة التي لا يُمكن تعليل اشتراكِها بالتشابه الصوتيّ أو بالتوسّع المجازي فقط، مثل جذر (د. ر. س) الذي يدلّ على القراءة والفناء!

هكذا، تقوم منصَّة "معجم الدوحة التاريخيّ" على التحيين مبدأ جوهريّاً، حيث لا تستقيم المعلومات الواردة فيه إلّا بإجراء مراجعاتٍ دائمة لها. وهو ما من شأنه أن يُخفّف التّعارض بين ما يُثبَت في كتاب وبين ما تصل إليه الدّراسات وما يُسفر عنه تحقيق المخطوطات النّفيسة التي لا تزال تملأ المكتبات مشرقاً ومغرباً، أو ما يُرصدُ من استخداماتٍ نادرة لبعض المعاني (sèmes) والفويرقات الدلاليّة. وهذه هي طبيعة المعرفة في عِلم التأثيل: العودة الدائمة إلى مكتسباته من أجل تقييمها وإعادة النّظر فيها عبر نقد كلّ المُعطيات المسجّلة سعياً إلى "الحقيقة" بقدر الطاقة.  

كما يتطابق مبدأ التحيين الذي يسير وَفقه القائمون على "معجم الدّوحة" مع الطّبيعة الديناميّة المنفتحة التي صارت عليها المعارف اللغويّة اليوم، وضرورة إدماجها ضمن أنساق المعلومات العالميّة الافتراضيّة وتلك الكائنة في المكتبات والجامعات ومراكز البحث، وهو ما لا تُتيحه إلا شبكة رقميّة حيّة. 

والخلاصة أنّ الفضاء الرقميّ يُتيح هامش حريّة أكبر بكثير من ضيق المكتوب، ويسمح بإجراء العديد من التصويبات التي لا يسمح بها حيّزُ الورق. هي حرّية المراجعة والنّقد وما تَهَبه من يُسر التعامل مع المعلومات وتحويرها بشكل دائمٍ حتى تتوافق مع ما توصّل إليه الفكر العربيّ في استقصائه لمغامرة تسميته لكونِهِ الرمزيّ بأشيائه الملموسة ومقولاته الذهنيّة.
 
ورغم كلّ هذه التحفُّظات، نأمل أن يُنشر "معجم الدوحة" في كتابٍ ولو في نسخة يتيمة حتى يعكس جلالُ المكتوب عراقةَ الضّاد وأصالة كلماتها. أليس العالَم الافتراضيّ رديفَ الهشاشة على ما حقّقه من معجزات؟ أليس تسطير هذه الكلمات وشماً في صفحات محسوسة من فنون مقاومة الزّمن والفناء؟ وحدها الصيغة الورقيّة ما يملأ العقول مهابةً أمام المَكنز اللغوي العربيّ، الذي ينطوي على آلاف الكلمات التي رقَمَها العربيّ لسُكنى العالَم وتخليد ذكراه.  


* كاتب وأكاديمي تونسي مقيم في باريس