استمع إلى الملخص
- يتميز شعر أبو توهة بتصويره الدقيق للواقع الفلسطيني، مستخدمًا السخرية والبلاغة للدفاع عن الكرامة الإنسانية، مع تكريم شخصيات فلسطينية بارزة.
- في حوار مع الناقدة سيلفي تانيت، أكد أبو توهة أهمية الشعر في توثيق النكبات الفلسطينية، مشيرًا إلى ديوانه الجديد "غابة الضجيج" وتأثير تجربته الشخصية على كتاباته.
استضاف "بيت الشعر" في باريس، قبل أيام، أمسيةً للشاعر الفلسطيني مصعب أبو توهة في إطار جولة يقوم بها في فرنسا، لمناسبة صدور الترجمة الفرنسية لمجموعته "أشياء قد تجدها مخبَّأة في أُذني"، عن "دار جوليار" بتوقيع إيف دو دومبيير نواري.
افتُتحت الأمسية بقراءة قدّمتها الممثّلة الفرنسية من أصل جزائري فلسطيني منى سوالم لقصائد من المجموعة، مصحوبة بموسيقى شربل بابل. كانت القاعة مملوءة عن آخرها، وخيّم الصمت المطبق على أرجاء المكان. عندما شرعت سوالم في قراءة المختارات الشعرية، انخفضت الأضواء وصار صدى كلمات أبو توهة يتردّد في زوايا القاعة.
بدا لافتاً ذلك التنوّع في الفئات العمرية الحاضرة ودرجة التركيز الجماعي أثناء القراءة. وقد كان من الواضح أنّ الحرب على غزّة في كلّ الأذهان، وأنّ ثمّة قناعة راسخة بأنّ الشعر وحده قادر على تقريب المسافات ولملمة الجراح وتجسيد آفاق إنسانية وأخلاقية تتجاوز الإخفاقات السياسية الدولية إزاء مأساة الشعب الفلسطيني.
يتميّز شعر مصعب أبو توهة بقدرته على استيعاب الواقع الفلسطيني وإعادة صياغته في صور بالغة الدقّة والتعبير. وعلى الرغم من أنّ ديوانه صدر سنة 2022، وأنّ بعض قصائده كُتبت قبل ذلك بسنوات، فإنّ شعره يصف، بدقة، حرب الإبادة الحالية على غزّة، وكأنّه وليد الظرفية الراهنة.
يضخّ الشاعر الغزّاوي الحياة في الفضاءات، ينبش في الذاكرة الشخصية والجماعية، ويختزل الحرب في مشاهد صادمة تُذكّرنا بالصور الواردة يومياً من غزّة والضاحية الجنوبية لبيروت: "يضيق الخناق على عُنق المدينة، ويُعرّيها اللصوص، ويبيعون ملابسها ومجوهراتها لوحوش البحر". يصف يوميات أهل غزّة وكيف تختلط عندهم الحياة بالموت، بل يصير موتهم "مؤقّتاً"، خاضعاً بدوره لقانون الاضطهاد بكلّ أنواعه.
هل يطّلع صُنّاع القرار في فرنسا على الشعر الفلسطيني الجديد؟
بين قصيدة وأُخرى، يسائل أبو توهة قدرة اللغة على احتواء المأساة الفلسطينية، ويلجأ إلى السخرية اللاذعة لتفكيك الصور النمطية التي تُلصقها بعضُ الخطابات الغربية بالشخصية الفلسطينية: "كان جدّي إرهابياً/ يرعى حقله/ يسقي الورود في الساحة/ يدخّن السجائر مع جدّتي". أمام إبادة الأجساد ونفي الأسماء، يستثمر الشاعر بلاغة الصمت وبساطة التعبير، مدافعاً باستماتة عن مفهوم الكرامة، حتى بعد أن تلفظ الحياة آخر أنفاسها: "نستحقّ موتاً أفضل". يكتب أبو توهة وكأنّه يختزل في بضعة أسطر سنة من العدوان الهمجي والدمار الشامل: "في غزّة، التنفّس تحدٍّ/ والابتسامة عملية تجميل/ تُشوّه وجوهنا".
يضمّ ديوان أبو توهة قصائد مستوحاة من الشاعرتين والمناضلتين الأميركيّتين أودري لورد وواندا كولمان، وأُخرى تكرّم ذكرى شخصيات فلسطينية بارزة؛ مثل غسان كنفاني ومحمود درويش وإدوارد سعيد. فالكتابة الشعرية عنده مرتبطة بالإرث الثقافي والفكري الفلسطيني وتاريخ النضالات الاجتماعية والسياسية في العالم، خصوصاً في الولايات المتّحدة حيث استقرّ به المقام بعد اعتقاله مِن قبل الاحتلال الإسرائيلي ثمّ خروجه من غزّة قبل عام من الآن.
انطلق صوت منى سوالم في فضاء قاعة "بيت الشعر"، مصحوباً بنغمات الموسيقى الشجية، وكأنّ كلّ كلمة من شعر مصعب أبو توهة تقرّب الحضور من أنقاض غزّة وتنقل إلى آذانهم أصوات الجرحى والمكلومين. تساءلتُ في لحظة تأمّل إن كان صُنّاع القرار في فرنسا يطّلعون على الشعر الفلسطيني الجديد، ففي هذه القصائد، على سبيل المثال، ومضات متوهّجة قد تُفتّح أعينهم على واقع الأرض التي ترزح تحت وطأة الاحتلال، وتُساعدهم على إدراك المأساة التي ربّما عجزت عن تبليغها نشرات الأخبار وتقارير من تبقّى من صحافيّين ومُراسلين في عين المكان.
بعد القراءة، كان الحضور على موعد مع حوار بين الشاعر الفلسطيني والناقدة الفرنسية سيلفي تانيت بمساعدة المترجمة الفورية تانيا جورجي. كانت الناقدة تطرح أسئلتها باللغة الفرنسية، ويجيب الشاعر بالإنكليزية، وتتولّى المترجمة تسهيل الحوار بنقل الأسئلة والأجوبة بين الطرفين. تبادر إلى ذهني أنّ هذه الحركية اللغوية في حدّ ذاتها إشارة واضحة إلى قدرة الأصوات الفلسطينية على تخطّي الحدود والوصول إلى العالم. فها هو شاعر غزّي مقيم في الولايات المتّحدة، يكتب باللغة الإنكليزية، تُقرأ قصائده باللغة الفرنسية ويُسمع صوته في قلب العاصمة الفرنسية.
تحدّث أبو توهة عن أفراد عائلته وأصدقائه الذين فقدهم جرّاء موجات العدوان الإسرائيلي على غزّة، وأكّد أهمّية الشعر بوصفه أداة للتفكير في النكبات المتتالية ومشاركة القرّاء واقع الحرب وما ينتابه من مشاعر وانفعالات بشكل لا يقبل التأجيل. فالشعر،عنده، وسيلة لتوثيق الإبادة والإدلاء بشهادة ضرورية حول الأحداث التي تتكرّر في تاريخ غزّة وفلسطين. وإذا كانت الكتابة الوثائقية تسجل الماضي الذي لا يعود، فإنّ الشعر الفلسطيني يواجه تحدّي كتابة ماضٍ لا ينتهي وتوثيق مأساة تتجدّد مشاهدها وأشكالها كلّ يوم.
مُجيباً عن سؤال حول كتابة الشعر باللغة الإنكليزية، قال الشاعر إنّها تُمكّنه من مُخاطبة العالَم، مع أنّه يكتب أيضاً باللغة العربية، خصوصاً في أجناس أدبية أُخرى كالقصّة القصيرة، واسترسل موضّحاً ألّا فرق بين التجربة الفردية والجماعية في فلسطين، وألّا شيء يُفسّر نجاته من الموت سوى المصادفة.
أشار ضيف "بيت الشعر"، أيضاً، إلى ديوانه الجديد "غابة الضجيج"، والذي يكتب في إحدى قصائده: "كلُّ طفل في غزّة هو أنا/ كلُّ أُمّ وأب هُما أنا/ كلُّ بيت هو قلبي/ كلُّ شجرة هي ساقي/ كلُّ نبات هو ذراعي/ كلُّ زهرة هي عيني/ كلُّ حفرة في الأرض هي جُرحي". وعندما سُئل عن مصدر الصور الشعرية التي تتردّد في قصائده، أجاب أنّ شعره نابع من الظروف القاسية التي مرّ بها، من نشأته في مخيّم الشاطئ وترحيل أسرته إلى بيت لاهيا، إلى إصابته خلال العدوان الإسرائيلي على غزّة سنة 2008، مروراً بذاكرة الأطفال الشهداء، وعلى رأسهم محمد الدرّة.
كانت أجوبته الدقيقة والمُستفيضة تُبيّن بوضوح ارتباط القصيدة بالواقع المعاش في تجربته الشعرية. فالشاعر الفلسطيني لا يسعه إلّا أن ينقل إلى القارئ ما يعتمل في نفسه إزاء الدمار الذي لا يتوقّف والدماء التي لا تجفّ. كانت المترجمة الفورية تانيا جورجي تبذل جهداً ملحوظاً لترجمة أجوبة أبو توهة ونقل كلماته إلى لغة بودلير، وبدا جليّاً أنّه بدوره ينصت بإمعان إلى الترجمة الفورية، وكأنّه يبحث عن معان أُخرى وصور إضافية قد يُبرزها صدى اللغة الفرنسية.
شاءت المصادفة أن أحضر الأمسية بعد أن قرأت الترجمة الفرنسية لمجموعة "أشياء قد تجدها مخبَّأة في أُذني"، وخصّصت لها مقالاً مطوّلاً في المجلّة الأدبية الفرنسية "في انتظار نادو". بعد الأمسية، اصطفّ جانب كبير من الحضور للقاء الشاعر والحديث معه وتوقيع نُسخ من الديوان. كانت ابتسامتُه تملأ المكان، ووجهه الباشّ يبعث الأمل.
وقفتُ أنتظر دوري وسؤال واحد يشغل بالي: كيف لهذا الرجل الذي يواكب الإبادة على غزّة كل يوم، وينشر مشاهد المأساة على شبكات التواصل الاجتماعي، على أمل أن تُحرّكَ الضمائر وتوقظ ما تبقّى في النفوس من إنسانية وروح مسؤولية، أن يحافظ على تلك الابتسامة المُشرقة والثقة الراسخة في الرسالة الشعرية؟
تقدّمتُ للسلام على الشاعر وتبادُل أطراف الحديث معه، وكانت تتردّد في ذهني كلمات القصيدة الأخيرة من ديوانه: "لا تتفاجأ أبداً/ لرؤية الوردة/ وهي تنهض من جديد/ وسط الأنقاض:/ هكذا بقينا على قيد الحياة".