Skip to main content
محمود عبد الرازق جمعة: أجل، إنها أخطاء لغوية
أحمد زكريا ــ إسطنبول
(⁨محمود عبد الرازق جمعة⁩/ العربي الجديد)

لا يخفى على أحد أن انتشار الأخطاء اللغوية في الكتابة صار ظاهرة في كل البلدان العربية، سواء في الإعلام أو لافتات المحلات أو حتى الكتب الأدبية، وصار يُنظر إلى من يتمسك بقواعد اللغة باعتباره من زمن غابر. وفي هذا السياق تأتي بعض المحاولات التي تسعى لمواجهة هذه الظاهرة، من بينها كتاب "الأخطاء اللغوية الشائعة في الأوساط الثقافية" للباحث المصري محمود عبد الرازق جمعة (صدرت الطبعة الأولى منه عام 2008 عن "دار شرقيات" في القاهرة، وتصدر الطبعة الثامنة عن "دار بتانة" هذه الأيام).

في مقدمة الطبعة السابعة من كتابه، يذكر الباحث أنه من الصعب حصر وتحديد الأخطاء التي يقع فيها العرب، لكنه يضيف: "وخصوصاً المصريين" عند حديثهم بـ اللغة العربية الفصحى. وكأن المشكلة تظهر في مصر أكثر من بلدان عربية أخرى، وحول هذه النقطة يقول جمعة في حديث إلى "العربي الجديد": "اللسان المصري مختلف عن معظم الألسُن العربية، ويقترب في بعضه من التركية؛ إذ لا ينطق الذال ولا الثاء ولا الظاء العربية، فيقلب الأولى زايًا أو دالًا، ويقلب الثانية تاءً أو سينًا، ويقلب الثالثة زايًا مفخَّمة، وأحيانًا دالًا مفخَّمة (ضُهر - ضَهر - حضرة)، إضافة إلى أنك لا تكاد تجد مصريًّا ينطق الضاد العربية من مخرجها الصحيح. فاللسان العربي يجنح دائمًا إلى التسهيل، وهو طيّع بحيث يقبل كل تَغيُّر ييسّر عليه النطق. من هنا كان قَبوله تعبيراتٍ وتراكيبَ وكلماتٍ جديدةً من مختلف اللغات التي دخلت عليه بحكم الاحتلال حينًا، والتفاعل التجاري والثقافي أحيانًا".

يضيف: "انتشرت الثقافة المصرية انتشارًا ملحوظًا من خلال الأعمال الفنية، فصار اللسان المصري سمةً مميزةً لأصحابه، تطوَّرَت وتتطوّر منذ آلاف السنين، بدءًا بالمصرية القديمة، التي تطوَّرَت إلى القبطية قُبيل دخول العرب مصر، ثم اللسان المصري العاميّ الحديث الذي ما زال يحتفظ بكثير من هذا وذاك رغم انتشار العربية في مصر وتَحدُّث أهلها بها. لهذا إذا سمعتَ سعوديًّا أو كويتيًّا يتحدّث لغته العامية، فإنك تجد رابطًا قويًّا بينها وبين العربية الفصحى، في حين تجد في كلام المصري رابطًا آخَر قويًّا بينه وبين لغته المصرية. ومن هنا كان من الأسهل أن تتسرّب الأخطاء الشائعة إلى اللسان المصري، أكثر من تسرُّبها إلى غيره من الألسُن العربية".

يُخطّئ بعضُهم تعبيرات صحيحةً دون العودة إلى المصادر

يعترض الباحث على طرق تعليم اللغة العربية في العالم العربي ولا يراها مناسبة، لا لقَدْر العربية، ولا للهدف من تعليمها، إذ يعتبر أن "معظمها يقوم على التلقين، ويُبنَى على سرد القواعد وتحفيظها، من خلال أمثلة بعيدة عن الواقع منفصلة عن الحياة، تجعل المادة المُدرَّسة بعيدة عن الواقع منفصلةً عن الحياة بالمثل". يضيف في هذا السياق: "أذكر أنه في أحد المناهج العربية كُتب مثال لصيغ المبالغة يقول: "العامِلُ تَرَّاكٌ صُحبةَ الأشرار"! وهو مثال لا يثبِّت المعلومة في ذهن الطالب بقدر ما يثير عَجَبه، فما علاقة العامل بصحبة الأشرار؟ ولماذا هو "تَرَّاك" (كثير الترك) لها؟ ألا يعني هذا أنه كثير الجلوس فيها، لأنه لا يتركها ما لم يكن فيها؟ ومَن الأشرار؟ والأهمّ من كل هذا، لماذا استعمل مؤلّف المنهج كلمة "تَرَّاك" التي لا يستعملها أحد؟! مثل هذا يملأ المناهج العربية، ويزيدها انفصالًا عن الواقع، ويزيد متعلّميها ابتعادًا عنها ونفورًا".

يذكر الباحث في المقدّمة نفسها أن فكرة الكتاب كان لها هدفان أساسيان: أولاً توضيح أهم وأكثر ما يشيع من الخطأ في الحديث والكتابة. وثانياً توضيح ما يشيع أنه خطأ وهو ليس بخطأ. إلا أن هناك من يرى أن الأخطاء الشائعة صار من الممكن استخدامها لأنها أصبحت متداولة بين الناس، وأن محاولات رصد هذه الأخطاء هي نوع من "التّعنُّت"، ويردّ جمعة على هذه الفكرة: "لا يرى تخطئة الأخطاء تعنُّتًا إلا مَن تَعوَّدها، وهذا واقع في كل شيء في الحياة، لأن الإنسان "عَبْد" لما يتعوَّده، صوابًا كان أم خطأً، بالضبط كمن قالوا: "حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا". وهم أنفسهم مَن يرون الصواب خطأً، للسبب نفسه، أنهم لم يتعوَّدوه. وإذا تركنا اللغة لهذا المنطق فقل عليها السلام، وبعد وقت قصير في عمر اللغات ستجد فجوة عظيمة بيننا وبين اللغة العربية".

كما يرى الباحث أن المشكلة لا تقتصر فقط على شيوع أخطاء في الكلام، بل إن البعض يدّعي على بعض التعبيرات والألفاظ العربية الفصيحة أنها من الخطأ اللغوي دون الرجوع إلى المصادر الأصلية للغة، وهذا يضع العربية في منحنى خطر قد يؤدي بها إلى الضعف والضيق، لأن مثل هذا الاتجاه يحرم أهلها كثيراً من خيراتها. ويذكر أمثلة في هذا السياق، حيث يقول: "أمّا ما يشيع أنه خطأ وهو صواب، فهو نوعان، الأول هو كلمات واردة في العربية يجهل بعض العاملين في مجال اللغة أنها واردة، فيخطِّئونها، كالفعل "دان" الذي يقولون إن صوابه "أدان"، رغم أن الفعلين في اللغة، ولكليهما معناه، فالأول من الدَّين ومِن الدِّين، والثاني من الإدانة".

يضيف: "ومنه أيضًا أنك إذا قلت "رَشْوة" بفتح الراء تجد من يقول لك إن هذا خطأ شائع، وإن الصواب "رِشوة" بكسر الراء، في حين أن المعاجم لا تختلف على أن الرشوة مثلَّثة الراء، أي إن راءَها تُفتح وتُكسَر وتُضَمّ، وتُجمَع على "رِشًى" بكسر الراء فقط. أمّا النوع الثاني فهو أن يُنكِر بعضهم تراكيب لغوية لأنها لم ترد في النصوص القديمة، في حين أن منطق اللغة العربية وقواعدها لا ينكرونها، كمن يخطِّئ تعبير "نفس الشيء"، ويقول إن الصواب "الشيء نفسه"، لأن ألفاظ التوكيد المعنوي تتبع المؤكَّد. ولكنه يجهل، أو يتجاهل، أن الاسم العربي ينوب عن الضمير، كما ينوب الضمير عن الاسم. فنحن نقول "الكتاب قرأته"، ولنا أن نقول "قرأتُ الكتابَ"، ونقول: "قرأتُ القصيدة نفسها"، ولنا أن نقول: "قرأتُ القصيدة، نفس القصيدة". وهذا لا يخالف الذوق العربي ولا قواعد العربية، فإن قيل إنه يخالف طريقة تركيب التوكيد، قلنا ببساطة: لَعَلّنا لم نُرِد التوكيد".

الصورة
غلاف الكتاب

من المعروف أن كلّ اللغات تمرُّ بعملية تطوّر، ويرى البعض أن هذا التطوّر قد تأخّر حدوثه في اللغة العربية، كما يذهب البعض إلى أن هذه الأخطاء الشائعة هي شكل من أشكال هذا التطور المطلوب. وفي هذا السياق يقول جمعة: "للتطوُّر في اللغات طريقان: الطريق الأول باكتساب كلمات جديدة، مشتقة من أصول اللغة أو مأخوذة من لغات أُخرى، والطريق الثاني بـ"اختراع" ألفاظ جديدة تواكب التطوُّر العلمي والأدبي والثقافي والاجتماعي الإنساني. واللغة العربية تطوَّرَت وتتطوَّر بالطريق الأول، ولا مجال لوقف هذا التطوُّر، وهو يحدث منذ كانت اللغة/ اللغات. أما الطريق الثاني فلا شأن للغة به، هي فقط تتابعه، فإذا كان ناطقو العربية منتجين ثقافيًّا تطورت اللغة ثقافيًّا، وإذا كانوا منتجين علميًّا تطورت اللغة علميًّا، إلى آخره".

ويضيف: "أما اعتبار الخطأ الشائع تطوُّرًا فلا يصحّ منطقًا، ولو اعتبرناه كذلك فعلينا أن نعتبر الفساد تطوُّرًا، لأنه لم يكن موجودًا ثم وُجد، ثم انتشر بين الناس وتَعوَّدوه، بل صار بعضهم يدافع عنه ويسمّيه أسماءَ أُخرى غير "الفساد"، فهو "هدية" و"تسليك أمور" و"تمشية حال"، إلى آخر التسميات التي "تَعوَّدناها" جميعًا. فهل هذا يجعل الفساد أو الرشوة "تَطوُّرًا" للنظام الإداري مثلًا؟ بالتأكيد لا. بالمثل لا يمكن أن نعدّ الأخطاء الشائعة تطوُّرًا لغويًّا، لأنها قبل أن تكون "شائعة"، فهي "أخطاء". والاستسلام لهذا المنطق والتسليم به يجعل اللغة العربية تَؤُول في النهاية إلى اللغة العامية، لأن الكلام العامي أكثر انتشارًا، ولكثير منه جذور عربية، وحين ننطقه فإن الناس يفهمونه ويعقلونه، فهل نسمّي هذا تطوُّرًا؟ لا أظن".

وحول المنهج الذي استخدمه في كتابه: "الأخطاء اللغوية الشائعة"، يقول جمعة لـ "العربي الجديد": "منهج الكتاب ببساطة هو تقسيم الأخطاء بين أسماء وأفعال وتراكيب وصوتيات وإملائيات وتذكير وتأنيث، مع ملاحق للترقيم وملخص لقواعد النحو والصرف... مع ترتيب كل هذا إملائيًّا بحيث يسهل الوصول إلى الموضوع المطلوب، مع كتابة الشواهد القرآنية بالرسم العثماني".

لمجمع اللغة تاريخ مشرِّف لكنه ابتعد عن الواقع المصري

أمّا عن استقبال الأوساط الثقافية للكتاب فيرى الباحث أنه حظي باهتمام القارئ من خارج هذه الأوساط أيضاً، إذ يقول: "بحمد لله كان استقبال الكتاب منذ طبعته الأولى (شرقيات، 1000 نسخة) جيدًا، إذ نفدت في عامها الأول، ونفدت طبعته الثانية (5000 نسخة) في ثلاثة أسابيع؛ إذ كانت ضمن سلسلة "مكتبة الأسرة"، ثم نفدت الثالثة (المجلس الأعلى للثقافة، 1000 نسخة) خلال عام، والرابعة (1000 نسخة، بتانة) خلال ثلاثة أشهر، والخامسة والسادسة والسابعة (بتانة، 1000 نسخة لكل منها)، مع تباطؤ التوزيع بسبب أزمة كورونا. وحاليًّا صدرت الطبعة الثامنة، وأرجو - وأتوقع- أن تنال حظًّا كأخواتها. وقد انتشر الكتاب في أوساط أخرى، إذ اشتراه طلاب جامعيون، ومحامون وقضاة، وباحثون في العلوم البحتة، وغير ذلك كثير. وكانوا يحرصون على إبلاغي آراءهم فيه، وكانت بحمد الله إيجابية".

صدر لمحمود عبد الرازق جمعة كتاب آخر في سياق قريب بعنوان "عزيزي المحرّر.. دليلك إلى صياغة احترافية" (صدرت طبعته الأولى عن دار بتانة عام 2019). ويرى الباحث في مقدمة هذا الكتاب أن المحرّر لن يُنتج نصاً رصيناً ما لم يكن النص في الأصل جيد السبك أو على الأقل مقبولاً، وحول دور المحرّر ومدى سلطته يقول جمعة: "المحرر هو المسؤول عن الصياغة، والصياغة من عمل الصائغ، كمن يحوّل التبر إلى ذهب، والذهب إلى حُلِيّ. فالمحرّر يحوّل الكلام العادي إلى كلام جميل متماسك ذي رونق، غير مُمِلّ ولا مُخِلّ. لهذا فسلطته هي السلطة التالية مباشرةً لسلطة المؤلّف، فله أن يغير صيغ العبارات، والعناوين الرئيسية والفرعية، وترتيب الفقرات…".

وعن المنهج المستخدَم في هذا الكتاب، يقول: "منهج الكتاب قائم على الابتعاد قدر الإمكان عن الاصطلاحات اللغوية التي قد تكون معقَّدة، لأنه موجَّه إلى كثير من الفئات غير المتخصصة، وضرب عديدا من الأمثلة التوضيحية، وعرض المشكلات الظاهرة والخفيَّة التي تواجه المحرّر، مع شرح كيفية حلّها أو تَجنُّبها، مع الحرص على أن تكون الأمثلة المضروبة حية مفهومة معاصرة".

نلاحظ أن هناك اعتراضات من بعض اللغويين على التراكيب الجديدة التي تدخل إلى الجملة العربية من خلال عملية الترجمة، ويرى هؤلاء أنها تراكيب أجنبية وإن باتت شائعة، وحول هذه المسألة يقول جمعة لـ "العربي الجديد": "إذا كان التركيب المذكور موافقًا لطبيعة اللغة العربية فأهلًا به، ولو لم يُذكَر قط في شواهد العربية، أمّا الخطأ فيكون إذا استعملنا تركيبًا خارجًا عن مبادئ العربية، فإذا قيل مثلًا: "على الرغم من غيابه إلا أننا ذكرناه"، فهذا تعبير خطأ، لأنه ليس فيه جملة، بل شبه جملة (على الرغم من غيابه) واستثناء (إلا أننا ذكرناه)، فقائل هذه العبارة لم يُكمِلها. والصواب أن يقول: "على الرغم من غيابه ذكرناه"، أو "على الرغم من غيابه فقد ذكرناه"، أو "ذكرناه على الرغم من غيابه"...

وحول دور مجمع اللغة العربية في مصر في السنوات الأخيرة، وطرق تفعيل هذا الدور في خدمة العربية، يقول جمعة: "مجمع اللغة العربية في مصر هو مجمع عظيم ذو تاريخ مشرِّف، ولكنه منذ وقت طويل انفصل عن الواقع المصري، فلا نجد تفاعلًا بينه وبين الجمهور، ولا تدخُّلًا في مهزلة المناهج التعليمية، ولا برامج ولا حضورا عبر الإنترنت ولا تفاعلا عبر منصات التواصل الاجتماعي الإلكترونية، ولا برامج تلفزيونية ولا إذاعية تجسر الفجوة بين اللغة العربية والعرب. فإذا أراد أساتذة المجمع أن يكون لهم دور حقيقي، فليتواصلوا مع بقية مجامع اللغة العربية، السوري والأردني وغيرهما، وليُعِدُّوا خطة حداثية منطقية واقعية تجعل لهم دورًا حقيقيًّا في خدمة العربية".


بطاقة

شاعر وباحث لغوي مصري من مواليد عام 1980. يعمل في الصحافة منذ عدّة سنوات، إلى جانب عمله في مجال تدريس اللغة العربية للأجانب والعرب. صدر له: "الأخطاء اللغوية الشائعة" (2008) "عزيزي المحرر دليلك إلى صياغة احترافية" (2019)، كما صدرت له ستّة دواوين شعرية، خمسة منها بالفصحى؛ من بينها: "فقدان مؤقّت للذاكرة" (2011)، و"موسقة" (2016)، وواحد بالعامية المصرية بعنوان "سندبادة" (2015)، بالإضافة إلى كتاب أدبي نثري بعنوان "قواعد القهوة الأربعون" (2015).