محمد الأسعد.. عودةٌ إلى الحوار الأخير

محمد الأسعد.. عودةٌ إلى الحوار الأخير

23 سبتمبر 2021
(محمد الأسعد)
+ الخط -

مقابلة للناقد والشاعر الفلسطيني الراحل محمد الأسعد، في ذكرى النكبة، خلال حلقة عبر بودكاست "رُواق"، بعنوان "أدب النكبة في تشكيل مشهد اليوم".


■ يتلاحم زمنان؛ زمن النكبة والضياع والتهجير عام 1948، وزمن النهوض والاشتباك عام 2021، على امتداد الخارطة!

- هو ما يحدث الآن في فلسطين، فعلاً هو تمازج بين زمانين، زمن اقتلاع شعب منّا وتشتيته، وزمن يشهد نهوض هذا الشعب كأنه من رماده، ويرفرف على كامل ترابه الوطني عام 2021. معنى هذا أن فلسطين التي يُعتاد على تسميتها "فلسطين التاريخية" لم تعد تاريخية فقط، بل هي فلسطين الحاضر أيضاً، بفعل المقاومة الحيّة تستعيد أسماءها، أسماء حقولها ومدنا وجبالها التي ألصق بها الصهاينة أسماءً زائفة من عندهم. فلسطين هذه تلمّ أمكنتها وأزمنتها التي شتّتها أعداءٌ من كل صنف ولون، ليس بالعودة إلى الأمس، إلى ذاكرتها فقط، بل بالاتّجاه نحو المستقبل، أيضاً. يعود الفلسطيني إلى مِلحه ومائه بعد سنوات من تغييبه في المنافي والمعازل والعواصم، بعيداً عن وطنه، ويصفّي ثقافةً زائفة حاولت أن تمحو وحدة أرضه وشعبه بل وأن تحرم أجيالاً من معرفة رواية آبائه وأمّهاته، وترسّخ بدلاً منها رواية ملفقة تتبنّى رواية العدو المستعمِر، وتستبدل كلمة "مستوطِن" بكلمة "مستعمر" وكلمة "إسرائيل" بكلمة فلسطين، وتعبير "أرض متنازَع عليها" بتعبير أرضٍ محتلّة، وما إلى ذلك من مقولات.

بهذا النهوض يستعيد الشعب الفلسطيني تكامُل دوائره. ما احتُلّ في عام 1948 وما احتُلّ في عام 1967 وما تشتّت من أجزائه في مخيّمات اللجوء، والأكثر دلالة عنه، يستعيد تكامله مع دائرته العربية والإنسانية من حوله، ويرسم في الوقت نفسه الملامح الواقعية لعدوه المُستذئب وسيظلّ مُستذئباً إلى أن تسحقه المقاومة بمحاورها التي تُحاصره الآن من كُل الجهات.


■ ما أهميّة حضور النكبة في الوعي الفلسطيني؟

- حضور النكبة في الوعي الفلسطيني له الفضل الأوّل في إبقاء فلسطين واقعاً حيّاً، وخاصّة أنّ هذه النكبة لم تكن حدثاً وقع وانتهى، بل ظلّت فصولها تتَرى منذ عام 1948 حتى الآن، وتتخّذ أشكالاً متعدّدة، ليست اتّفاقيات الاستسلام المُسمّاة اتفاقيات "أوسلو" ومصادرة واستعمار المزيد من الأرض الفلسطينية، وسحق المخيّمات الفلسطينية في هذا البلد العربي أو ذاك، إلّا فصولها المتوالية. ولهذا كانت الحرب على الذاكرة الفلسطينية، أي الحرب على ذكرى النكبة بل والنكبات الفلسطينية، متواصلة، ومترافقة مع الحرب على التجمّعات الفلسطينية، وعلى روايات حُرّاس الذاكرة. هؤلاء الذين رسّخت رواياتهم في وجداننا فلسطين، حتى في الأزمنة التي كان اسم فلسطين فيها مُحرّماً، ولم يعد الفلسطيني يُعرَف فيها إلّا باسم اللاجئ المُجرّد من الهوية.

مَن عاش تلك الأيام، التي لم يكن للطفل الفلسطيني فيها، سواء درس في مدارس المُستعمِرين الصهاينة أو عواصم اللجوء العربية، يجد بين يديه نَصّاً يُذكّره بفلسطين، أو بهويّته، يستطيع الآن الإحساس بعظمة المقاومين الفلسطينيين الذين اتّخذوا منذ أوّل لحظة اصطدموا فيها بالمُستعمِر القادم من البُلدان الأجنبية اسمَ الفدائيين، والإحساس بجلال العائلة الفلسطينية التي واصلت ترسيخ وطنها وأسمائها وأسماء قُراها وحقولها في عقول أطفالها، ولم تنتظر لا مناهج مدرسية، ولا خطابات خطباء، لتُبقي وجود فلسطين حيّاً في الوعي والمُخيّلة والأحلام.


■ برأيك، كيف ساهم أدبُ النكبة والفن بشكل عام في تشكيل مشهد اليوم؟ 

- عن النكبة وروايتها، هي حملَ عِبأها حُرّاسُ الذاكرة، الآباء والأُمّهات والأجداد والجدّات، تحدّثتُ الآن، أمّا عن الفن، ففي ذاكرتي فنّ الأغاني الفلسطينية الشعبية التي كانت تتردّد في الأعراس والمناسبات، والشعراء الشعبيّون والمُغنّون الذين كانت ألحانهم وأغانيهم لا تُوحي بالوطن وأيّامه فقط، بل كانت تُجسّده وتجعله وطناً ملموساً، خاصّةً وأنّ المقامات الموسيقية أقرب إلى الذاكرة والرّوح، حتى من الكلمات. فيعود الفلسطيني والفلسطينية والمُسنّ أو المُسنّة إلى شبابه حين كان في قريته أو مدينته، في حقله أو في مدرسته، أمّا الطفل والشاب فتخاطب موسيقى وكلمات هذه الأغاني مُخيّلتَه، وطن آبائه وأُمّهاته في وجدانه.

الفن الآخر الذي أعتقد أنّه كان مؤثراً، هو الفنّ التشكيلي، وخاصّةً ذلك النوع الذي حرص فنّانوه على تحويل لوحاتهم إلى قصص وروايات عن النكبة، وعن يوميات الفلسطيني، زيتونه وعلى مشارف وِديانه. هذا الفنّ التشكيلي وفن الغناء الشعبي، كان لهما بالغ الأثر بالتذكير بالوطن الواحد – كامل التراب الوطني – بلا تمييز بين أجزائه، أعني أنّه كان يُقاوم تحويل الوطن إلى شظايا، أمثال: ضفّة، وقطاع، وأرض 48، وما إلى ذلك.


■ يُقال إنّ للكلمة فعل التحرّّر والتحرير. كيف حاول الأدب الفلسطيني تجاوز أثر النكبة، في الحديث عنها؟

- هذا هو الجانب الذي قَلّ تناوله حين كان يُكتب عن الأدب الفلسطيني، أعني وظيفته المُحرّرة التي مارسها الروائيون والشعراء الفلسطينيون على وجه الخصوص. الأدب كما للفن فعل المُحرِّر، ويتجلّى هذا الفعل في أفضل صوره في أدب الشعوب المُدافعة عن روايتها التي يحاول المُستعمِر طمسَها، والمقاومة بشتى صنوف محاولات استعمار مخيّلتها وعيها، وللفلسطيني الحق في أن يعتز بأنّ أدب أُدبائه في مُعظم نصوصه كان مُخلصاً لهذه الوظيفة، بل ودفع عددٌ من أُدبائه حياته ثمناً لإخلاصه لهذه الوظيفة. أنا أٌسمّي هذه الوظيفة باسم تحذير الوعي من الصور الزائفة والمضلِّلة والمُشهوِّهة، ومن مهمّات الأدب والفن عبر التاريخ أداء هذه الوظيفة، وإن اختلفت تسمياتها، وتكتسب هذه الوظيفة أهمية عظمى في الحالة الفلسطينية التي لم تُستعمَر فيها أرض فلسطين فقط، بل وجرت معها في الوقت نفسه محاولة استعمار وعي ومخيّلة الشعب الفلسطينية؛ ترسيخ مفاهيم وصور مُضلّلة، وكانت مُقاومة الأدب الفلسطيني كما الفن لهذا الاستعمار جليّة، ليس بالعودة إلى النصوص فقط، بل وبتذكّر شهداء من أمثال غسّان كنفاني وناجي العلي، اللّذَيْن كانا شهداء الكلمة.

آداب وفنون
التحديثات الحية

المساهمون