ماريو بارغاس يوسا ناقداً.. الرواية ليست حكاية بل فعل سياسي

05 نوفمبر 2025   |  آخر تحديث: 09:50 (توقيت القدس)
ماريو بارغاس يوسا في معرض كولونيا الأدبي بألمانيا، 2016، (Getty)
+ الخط -

استمع إلى الملخص

اظهر الملخص
- أهمية الكتابات النقدية ليوسّا: تُبرز الدراسة النقدية "النظرة الهادئة" أهمية أعمال يوسّا النقدية التي لم تحظَ بالاهتمام الكافي في العالم العربي، حيث تُعتبر جزءًا أساسيًا من مشروعه الإبداعي وتقدم رؤية نظرية ونقدية متماسكة.

- رؤية يوسّا للرواية: يرى يوسّا أن الرواية تعبر عن تناقضات التجربة الإنسانية وتعيد تشكيل الواقع، مشددًا على أهمية الإقناع الروائي وانتقاد توظيف الراوي العليم.

- دور القارئ في العملية الإبداعية: يعتبر يوسّا القارئ شريكًا في الإبداع، حيث تسهم الرواية في إعادة التفكير في الذات والعالم، وتعتبر فعلًا سياسيًا ضمنيًا يعالج قضايا السيطرة والاستبداد.

تحيل آخر دراسة نقدية أنجزها ماريو بارغاس يوسا قبل رحيله بعنوان "النظرة الهادئة" (غاليمار، 2024)، والتي خصّ بها رائد الرواية الواقعية الإسبانية بينيتو بيريث غالدوس، إلى سؤال لا يغادر الذهن: لماذا لمْ تحظ أعمال يوسا النقدية بالاهتمام ذاته الذي نالته أعماله الروائية عربياً؟ فمقابل 18 رواية نقلت إلى العربية، لم يُترجم سوى ثلاثة من مؤلفاته النقدية: "الكاتب وواقعه"، وضمّ محاضرات كان ألقاها في جامعة سيراكيوز الأميركية، و"رسائل إلى روائي شاب"، و"نصف قرن مع بورخيس"، إضافة إلى كتيّب حمل عنوان "إيروس في الرواية" وضمّ سبعة فصول من أصل 35 اشتمل عليها كتابه "حقيقة الأكاذيب" في طبعته الإسبانية المزيدة الصادرة سنة 2002. ولم تجد كتبه التي درس فيها أعمال كلّ من غارسيا ماركيز (أطروحته للدكتوراة)، وفلوبير، وهوغو، وأونيتي طريقها إلى العربية بعد.

وأيا كانت أسباب الإحجام عن ترجمة هذه الأعمال، فإنها تحرم القارئ العربي من نتاج بالغ الأهميّة، يلقي مزيداً من الضوء على عوالم يوسا ولا يكتمل حضوره في الثقافة العربية إلّا به، فالكتابة النقدية لم تكن نشاطاً هامشياً عند يوسا، بل هي في صلب مشروعه الإبداعي، وقد استُقبلت بوصفها كذلك في ثقافات أخرى مثل الفرنسية والأميركية. وكما يرى كثير من الباحثين، فإنّ هذه الكتابات لا تطرح مجموعةً من التحليلات والأحكام والشهادات المتفرقة حول فن الرواية، بل تنطوي على رؤيةً نظرية ونقدية متماسكة، وعلى قدر كبير من العمق والذكاء والثراء، تسندها ثقافة واسعة وفكر متين، ومعرفة عميقة بأدق أسرار الصنعة الروائية؛ رؤية تمتاز بأنها بنت التجربة الحيّة، والمراس الطويل، ولا تتأسس على نسق نقدي مدرسي أو مذهبي.

كمال المتخيّل ونقص الواقع

تقوم رؤية يوسا على تصوّر يجد في الرواية الشكل الأدبي الأقدر على التعبير عن تناقضات التجربة الإنسانية، بوصفها اختلاقاً فنيّاً قادراً على إعادة تشكيل الواقع عبر التخييل، وعلى كشف حقيقة الإنسان والمجتمع أكثر مما تفعل الوقائع ذاتها. فالروائي ليس مجرد محاكٍ للواقع أو شاهدٍ عليه، بل هو صانع كونٍ سرديّ مغلقٍ ومكتفٍ بذاته، تحكمه قوانينه الخاصة، فالكاتب يسيطر على سير الزمن ويرسم الأمكنة، ويمنح الحياة للشخصيات ويشكّلها ويحدّد مصائرها وفق إرادته الفنيّة، فتعد الرواية مختبراً للبحث عن معنى الوجود الإنساني، وأداة معرفية وأخلاقية تتوسّل الوصول إلى "الحقيقة بالأكاذيب". ونموذج ذلك عند يوسا عوالم فوكنر، والعالم الذي شيّده غارسيا ماركيز في "مئة عام من العزلة".

ينتقد توظيف الراوي العليم، لأنّه يفرض ضرباً من الوصاية

تنبع الحاجة إلى السرد واختلاق الحكايات وفقاً ليوسّا، من رفض الإنسان لواقعه المحدود زماناً ومكاناً ورغبته العميقة في تجاوز قيوده ليختبر حيوات وتجارب إنسانية أخرى. فالكاتب ينطلق من الواقع ومن تجاربه الشخصية ليشيّد عالماً بديلاً أكثر غنىً واكتمالاً، وذلك باختلاق "أكاذيب مقنعة" تفوق الواقع ذاته. وهنا يقترح يوسا مفهوم "قوة الإقناع الروائي" الذي يجعل نجاح الرواية منوطاً بقدرتها على الإيهام بالواقع وإقناع القارئ بأنّ عالمها الخيالي حقيقيّ ومكتفٍ بذاته.

وهذه القدرة مشروطة عنده بالتزام الكاتب بالانضباط الفنّي والصرامة الشكلية والأسلوبية وبقدرته على تشييد بناء سردي معقّد يعكس تعقيد الحياة نفسها، ما يفسّر عنايته القصوى بالتقنيات السردية كتعدّد الأصوات ووجهات النظر، وتداخل الأزمنة، وتوازي الحكايات، بوصفها وسيلة ضرورية تفصح عن طبيعة الوعي الإنساني المتشظّية. وهو يشدّد على أنّ الإقناع الكامل لا يمكن أن يتحقّق إلّا بإخفاء الراوي، بحيث يبدو النص وكاّنه يعمل وفق قوانينه الداخلية من دون تدخّل خارجي، فالرواية التي تُظهر صانعها تُفقد القارئ وهم الواقع. ولهذا ينتقد توظيف الراوي العليم عند هوغو مثلاً، لأنّه يفرض ضرباً من الوصاية على القارئ، ويحدّ من حرية التأويل ويضفي على النص طابعاً تعليميّاً، "فالأدب ليس مجانيّاً، وهو ممارسة خطرة يترتّب عليها التزام أخلاقي لكنّه ليس وعظاً ولا دعاية".

غير أن اعتراض يوسا على تقنية السرد عند هوغو، لم يمنعه من أن يعدّ رواية البؤساء نموذجاً لما يسمّيه "الرواية الكلّية"، التي تسعى إلى احتواء الوجود الإنساني في أبعاده كافة: الاجتماعية، والسياسية، والثقافية والتاريخية، وتجمع بين الواقعي والميتافيزيقي، وبين المعرفة والمتعة الجمالية.

كل رواية هي بالضرورة فعل سياسي ضمني نظراً لانشغالها بالآخرين

وعلى خطى "معلّمه" فلوبير الذي دشّن بروايته "مدام بوفاري" عصر الرواية الحديثة، رفض يوسا، من جهة، كل فصل بين الأسلوب والموضوع، "فالشكل الفني لم ينفصل قطّ عند فلوبير عن الحياة، بل كان خير مدافع عنها" كما يقول. ومدار الأمر في فن الرواية ليس الفكرة أو الحكاية، بل كيف تروى. ولهذا انتقد على السواء أنصار المدرسة الطبيعية الذين أفرطوا في الاهتمام بالمحتوى الواقعي، والشكليّين الذين أغفلوا الموضوع لصالح التجريب، فيما الرواية الحقيقية، مثلما يتصوّرها، نتاج توازن دقيق بين العالم المروي وطريقة سرده. ومن جهة أخرى رفض مفهوم "الإلهام"، فالكتابة كما وصفها  في "رسائل إلى روائي شاب" ثمرة جهدٍ شاق وعمل منظّم دؤوب، والرواية بناءٌ يشيّد بكثير من الصبر والانضباط والمثابرة، على غرار فلوبير الذي حوّل الكتابة إلى مهنة يومية.

القارىء شريكاً

أما القارئ، فيُعدّه يوسا شريكاً في العملية الإبداعية، إذ لا تكتمل الرواية إلا بتأويله لها وانخراطه في عالمها، لتغدوَ تجربة فكرية وجمالية محفّزة، تدفع المرء إلى إعادة التفكير في ذاته وفي العالم، وأداةً للمعرفة والمتعة والتحرّر في آن، وإن انطوت أحياناً، كما في أعمال أونيتّي، على ضرب من "الألم الجمالي". فالأدب يسحرنا حتّى حين يكشف عن تعاستنا الإنسانية، وهو لا يتجاهل الألم، بل يحوّله إلى معرفة وشكلٍ من أشكال الحرية الجوانية.

ويرى يوسا أن كل رواية هي بالضرورة فعل سياسي ضمني، بما هي انهمام بالآخرين وبالشأن العام، ذلك أنّها تضع القارئ في مواجهة أنظمة السيطرة والاستبداد، سياسية كانت أم دينية أم اجتماعية. من دون أنْ تُختَزل  في خطاب أيديولوجي، فالقيمة الجمالية للنص هي التي تمنحه قوته وتأثيره.
 

المساهمون