لاسلو كراسناهوركاي... التحديق في الواقع بجنون

16 أكتوبر 2025   |  آخر تحديث: 07:36 (توقيت القدس)
علاف رواية "هيرشت 07769" (تصميم العربي الجديد)
+ الخط -

استمع إلى الملخص

اظهر الملخص
- بدأت مسيرة لاسلو كراسناهوركاي الأدبية في الثمانينيات، وحقق شهرة واسعة في ألمانيا، حيث تناولت أعماله موضوعات العالم المنهار، مثل روايته "هيرشت 07769" التي تدور في منطقة خيالية تعاني من الركود الاقتصادي.

- تتسم رواياته بالتشاؤم والعبثية، حيث يواجه أبطاله تحديات وجودية ومعضلات علمية دون إجابات واضحة، كما في "كآبة المقاومة" و"عودة البارون وينكهايم إلى الديار"، مما يعكس الفساد واليأس.

- يُعتبر كراسناهوركاي "مايسترو نهاية العالم"، حيث تركز رواياته على الأمل الزائف والوعود السياسية المستحيلة، ويستخدم أسلوباً سردياً طويلاً ليغمر القارئ في روتين الحياة اليومية، معتبراً الأمل وسيلة لمواجهة اليأس المطلق.

ظهرت أولى رواياته في منتصف الثمانينيات، ورحل مبتعداً عن بلده هنغاريا التابع للاتحاد السوفييتي آنذاك، ليعيش في ألمانيا حيث انتشرت أعماله هناك، وحتى عام 2011، اقتصرت روايات لاسلو كراسناهوركاي المترجمة إلى الإنكليزية على روايتين اثنتين. ثم نال جائزة مان بوكر عام 2015، ليراكم الجوائز إلى رصيده، وعددها 16، وصولاً إلى فوزه بنوبل للأدب هذا العام، بعد آخر رواياته "هيرشت 07769". 

من أهم الظواهر التي تتكرر في أعمال الروائي الهنغاري هي ظاهرة العالم المُنهار، ففي روايته الأخيرة "هيرشت 07769" (2021)، التي تُرجمت عن الهنغارية، نقرأ عن منطقة خيالية تقع ضمن مقاطعة تورينغن (ضمن ألمانيا الشرقية سابقاً)، التي ترزح تحت ركود اقتصادي، ويعيش فيها فلوريان هيرشت، بطل الرواية، الذي يعمل تحت إمرة زعيم عصابة نازية محلية جديدة، حيث يقومان بتنظيف واجهات المباني من الكتابات الجدارية.

في الرواية، تصف بعض الشخصيات فلوريان بأنه أحمق المنطقة، وأنه طفل كبير، وهو ما يظهر بصورة أوضح حين يستمع إلى أحد الفيزيائيين الذين يسكنون منطقته، فيظن من كلامه المعقد عن العدم والمادة المضادة أن "كل شيء يقف على حافة الدمار... وأن النهاية باتت قريبة"، ما يدفعه إلى مراسلة المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل التي درست الفيزياء في شبابها، ليضع فيها ثقته بوصفها شخصية حكيمة في نظره، وستفعل اللازم لإنقاذ العالم من كارثة كونية. 

لا ترد المستشارة على رسائله التي كان يوقعها باسمه وبالرمز البريدي العائد إليه "07769"، فيما تتوالى الأحداث الفوضوية حوله، إذ تشتبك عصابته مع مجموعات مهاجرين محليين، كما تتعرض مجموعة من المعالم التاريخية المرتبطة بالموسيقي الألماني يوهان باخ، الذي يحبه زعيمه بجنون، إلى عمليات تشويه، ما يثير موجة من الأزمات حول فلوريان. 

الروايات، شأنها شأن الكوابيس، تنبض بالمخاوف لا بالإجابات
 

يصيب اليأس بطل الرواية، وينضج تساؤل الرواية الأساس، وهو إذا ما كانت المآسي التي يجب أن يخافها هي الوقائع اليومية التي باتت تحاصره وتخرب منطقته، وليست تلك المتعلقة بمعضلة علمية كونية مرتبطة بتطور الفيزياء، لا يرغب أحد في التجاوب بشأنها مع فلوريان. ولكن الإجابة عن هذا التساؤل، التي قد يبحث عنها القارئ في حبكة الرواية، غير موجودة، فالكآبة تخيم على عوالم كراسناهوركاي منذ "كآبة المقاومة" التي صدرت عام 1989، التي تقوم أيضاً على الغرق في التساؤلات، وهو نفسه يقول "إن الروايات، شأنها شأن الكوابيس، تنبض بالمخاوف لا بالحقائق والإجابات".

الخيال فريسة الواقع المفضلة 

لم تنضج عوالم لاسلو المتشائمة فجأة، فقد ولدت من مشاهداته خلال الحكم الشيوعي المتأخر قبل سقوطه، وما لحقها من تأملات في أوروبا المعاصرة التي لا تقل يأساً وتآكلاً، إذ يقول أحد أبطال "هيرشت 07769": "لم يتغير شيء جوهرياً منذ زمن، فلا شيء يتغير بشكل جوهري على الإطلاق". ويظهر هذا جلياً في قصته القصيرة "ملاك مرَّ من فوقنا" التي نشرها في فبراير/ شباط الماضي. وفيها، يضع الأحلام في مواجهة التعفن، والخيال في مواجهة الدم. وقد صرح في مقابلة صحافية أجريت معه مؤخراً حول سبب التشاؤمية لديه "أنا عاجز عن تقبّل فكرة أن البشر يقتلون البشر... كل هذا يحدث بينما في الفضاء الرقمي تُرسم رؤيةٌ للمستقبل تبشّر بأن التطور السريع المذهل للتكنولوجيا سيجلب لنا قريباً عالماً جديداً جميلاً". 

عودة إلى البدايات

وبالعودة إلى عمله الأول "تانغو الخراب" (1985)، فإنه يتمحور حول الصراع على أفكار تنهار وتضع أصحابها وضحاياها على حد سواء في مواجهة المجهول، متمثلين في سكان قرية معزولة تواجه الخراب وتقع تحت وطأة مطر لا يتوقف ومبان تتحطم، وضياع للسكان الباحثين عن الخلاص دون أمل. 

أما روايته "عودة البارون وينكهايم إلى الديار" (2016)، فإنها تتناول قصة بارون يصيبه مرض مزمن لا شفاء منه، فيقرر العودة إلى بلدته الهنغارية المهملة بحثاً عن حبيبته التي تركها هناك لسنين طويلة، وبعودته، يبني السكان الفقراء واليائسون آمالهم أنه يحمل ثروة طائلة ستحل كل مشاكلهم. ولاحقاً، تتلاشى أحلامهم ويتحول البارون إلى نذير خلاص زائف، فلا هو يجد حبيبته ولا البلدة التي تعاني الفساد والفقر تنجو. 

يضع الأحلام في مواجهة التعفن، والخيال في مواجهة الدم

تشكل الرواية نقداً لاذعاً وساخراً لحالة هنغاريا بعد سقوط الحكم الشيوعي، حيث يسيطر الفساد البيروقراطي واليأس العميق على حياة الناس، وتقود في المحصلة، كما معظم أعماله، إلى فكرة الوجود العبثي، عبر أسلوب سردي طويل ومكثف يغرق القارئ في روتين الحياة المنهكة والثرثرة العبثية التي تملأ أيام شخصياته، ما يعكس في النهاية استحالة استعادة الماضي أو إيجاد معنى في الحاضر.

مايسترو نهاية العالم

حين قرأت الكاتبة والناقدة الأميركية سوزان سونتاغ رواية "كآبة المقاومة"، قالت إن لاسلو هو "مايسترو نهاية العالم"، وربما تشكل هذه المقولة خلاصة عالمه الروائي، إذ تعتمد رواياته على جمل طويلة تناسب قوله إن "الوصف هو جزء من معاناة الشخصيات التي تتحدث بلا توقف في محاولة يائسة لفهم ما حولها"، وذلك في ظل تركيزه على أن نهاية العالم ليست حدثاً مستقبلياً، بل هي حالة وجودية مستمرة نعيشها الآن.

إضافة إلى هذا، فإن الأمل الزائف والوعي الكاذب والوعود السياسية المستحيلة، والمباني المدمرة والقرى الريفية المهملة في أعماله، التي تدور حول مركز واحد هو وهم المستقبل، واليأس الذي يعني أن الجحيم قائم ولا داعي لانتظاره أو انتظار نهاية العالم، تحيلنا إلى أن لاسلو كراسناهوركاي حاول في معظم أعماله "التحديق في الواقع بجنون" ومواجهته، كما قال بعض النقاد.

هذه المواجهة ربما تظهر واضحة في روايته "سِيّوبو هناك في الأسفل" (2008)، التي تتمثل مقولتها في أن الفن (سواء كان ترميماً لتمثال بوذا أو رقصاً يابانياً قديماً)، يجسد محاولة الإنسان إعادة بناء الجمال العابر، وتأكيد قوة الفن في مواجهة رعب نهاية العالم. يقول الروائي نفسه "الأمل مجرد إسعاف عقلي لمواجهة اليأس المطلق". 

 

* كاتب ومترجم من الأردن

المساهمون