قطعة جُبن تساوي العالَم

قطعة جُبن تساوي العالَم

05 ابريل 2021
عمل لـ سلوى روضة شقير، 1959
+ الخط -

البرد الخفيف في الهواء، الدكاكين المغلقة، رائحة الرطوبة والعفن، ونصف مكعّب جُبن في يدي. نصف مكعّبٍ صغير بحجم طائر أقبض عليه بهدوء وأنا أتخيّل كيف تنازلتُ من أجله عن شراء التبغ. كنت أمام خيارين: إمّا الأكل أو التدخين. وأنا، كرجلٍ ناضج، يجب أن أختار ما قد يسدّ رمَقي حتّى الغد، مع أن هناك شيئاً ما زال في داخلي يريد التبغ، وأظن أنّهُ الجزء الأنضج مني.

نصف مكعّب يكفي تقريباً للغد. وفي أحسن الأحوال ــ لو صغّرت لُقمتي إلى أصغر حجم ــ سيتبقّى منه القليل إلى ما بعد الغد صباحاً، وهذا إنجازٌ أستحقّ من أجله الظهور في الإعلام كمواطن صالح تقريباً، يستطيع أن يصنع من مكعّب جبن واحد وجبةَ غداء وعشاء وفطور. هذه هي القسمة التي اعتدت عليها. أن آكل وكأنّني أقود عمليّةً حسابية عقيمة، مستحيلة الحل؛ أضرب الأخماس بالأسداس وأقسّم المعلوم على المجهول، إلى أن أصل إلى جزء متبقٍّ يكفي لوجبة أخرى.

وضعتُ مكعّب الجبن على طاولة المطبخ، في منتصف الطاولة، كمزهريّة، وتأمّلته كانتصارٍ، كسلاحٍ سرّي يمكنني أن أشهره في وجه العالم. هذه حصيلة تعبي. مكعّب صغير يرتقي ليكون حبلَ نجاة. هذا هو حبل نجاتي الذي سوف يحميني حتّى الغد من الجوع. لقد عملت من أجله ليومين كاملين، وقدّمت من أجله كلّ طاقتي؛ تحمّلت من أجله أوغاداً من الذين لو استطاع الأطباء وضع أسنانٍ ولسانٍ في سُرّة بطونهم ليتحدّثوا من مكانين عن إنجازاتهم عندما قالوا لا...

تعلّمني بيروت، يوماً بعد يوم، أنّ الحياة تتطلّب التنازل

سال لُعابي بهدوءٍ وأنا أتخيّل كيف سيكون طعمُ الجبن في فمي. ركضتْ مشاعري بهدوء وأنا أفتح الغلاف الشفّاف، وقفزتْ معدتي من مكانها جوعاً، تريد احتضان الجبن قبل استقباله. بهدوء، بدأت أقيس أنملتين من أصابعي لكلّ وجبة: رفاهيّة لا أقوى عليها الآن. جلبت الخبز وكوباً من الماء وتركت الجبن يذوب كقطعة قطن تحت لساني، يحملني الطعم ويأخذني نحو سعادة الشبع، يقرّبني من الجنّة وينبض بفرحٍ غامض بين أسناني. ولا يكفي أن أشبع لأقول إنّ الجبن يكفي للشبع، بل يكفي لمرحلة ما قبل الشبع بقليل، هذه المرحلة الذي تدّعي فيها الشّبَعَ في منازل الغرباء.

غريبٌ يقسّم وجبته بطريقةٍ غريبة، ليأكل وكأنّه يتناول وجبته أمام ضيوفٍ فاجَأَهم بزيارة. هكذا صارت حياتي. وحياةُ أكثر من خمسين في المائة من سكّان هذه المدينة...

تُعلّمني بيروت، يوماً بعد يوم، أنّ الحياة تتطلّب التنازل، والاختيار بين الجُبن أو التبغ. هل أتناول الآن القطعة الكبيرة أم الصغيرة من الجبن؟ هل أجلب الدواء أم الخبز؟ خياراتٌ مفتوحة، عليك أن تتنازل فيها عن شيءٍ ما مقابل شيء آخر... لتكتشف في النهاية أنّك تطوّع حياتك للتعايش كمعتقَلٍ صغير. عليك أن تُحسن الاختيار في أسوأ الأحوال، لكي تنجو.


* كاتب سوري فلسطيني

موقف
التحديثات الحية

المساهمون