استمع إلى الملخص
- تنوعت مسارات القصيدة الحديثة بظهور اتجاهات متعددة مثل النصوص القصيرة، والتمسك بالتراث الشعبي، والتركيز على الأداء الحي، مما يعكس قدرتها على إنتاج صور وأساليب حديثة.
- تغيرت طرق النشر والتلقي مع التحولات اللغوية، حيث أصبحت المنصات الرقمية نافذة لانتشار القصيدة، مما أوجد حالة من التشتت وعشرات الأصوات المتفرقة، مع بقاء القصيدة مرآة للتحولات الاجتماعية والثقافية.
لم تعد قصيدة العامية المصرية كما عُرفت في العقود الماضية؛ شيء ما تبدّل في ملامحها، مسَّ لغتها وبنيتها وموضوعاتها، وأعاد صياغة حضورها في المشهد الثقافي وعلاقتها بجمهورها. فمنذ زمن طويل ارتبطت العامية بخطاب جماعي يستمد روحه من الهمّ الوطني والاجتماعي، لكن السنوات الأخيرة حملت انعطافة واضحة؛ إذ أخذت القصيدة تميل أكثر إلى التجربة الفردية، وإلى التفاصيل الصغيرة التي تشكّل حياة الناس اليومية، فغدت أقرب إلى دفتر شخصي يدوّن لحظات القلق والفرح والانكسار.
يرى الناقد عماد حسيب في كتابه "جماليات العامية المصرية" (2021) أن ما نشهده اليوم يُشكّل قطيعة مع المراحل السابقة التي تراوحت بين الغنائية الشعبية والنصوص الوجودية الحديثة. فالشاعر الجديد، بحسب الكتاب، لم يعد يقدّم نفسه حكّاء شعبياً أو ناطقاً باسم الجماعة، بل كاتباً فردياً، أقرب إلى مدوّن يكتب ذاته بلغة شعرية. ومن زاوية أخرى، يرى البعض أن قصيدة العامية أصبحت العصارة الروحية للمهمّشين، وأن انفتاحها على الفضاء الرقمي منحها طاقة جديدة، وجعلها قادرة على الوصول إلى جمهور لم يكن في الأصل معنياً بالشعر.
يبدو مشهد الشعر العامي في مصر اليوم متشعباً ومتعدد المسارات، فلم تعد هناك مدرسة واحدة أو مرجعية كبرى تفرض وصايتها على الذائقة، بل أصبح ساحة واسعة مفتوحة على احتمالات وتجارب متجاورة أحياناً ومتصادمة أحياناً أخرى. من بين هذه المسارات يبرز اتجاه يعتمد على كتابة نصوص قصيرة جداً، أشبه بومضات أو مقاطع يومية، تلتقط لحظة عابرة من الحياة وتحوّلها إلى صورة شعرية ذات وقع خاص، كما في تجارب علاء خالد، وعمر طاهر، ومروة حمدي. هي قصيدة لا تستعرض بلاغتها بقدر ما تراهن على صدقها وبساطتها، فتجعل من تفصيل عادي مشهداً يستدعي التأمل، وتكتسب قيمتها من قدرتها على تحويل الهشاشة اليومية إلى معنى أعمق يتجاوز اللحظة.
تخلّت نماذج جديدة من هذه قصيدة عن الوزن والإيقاع المألوف
وفي مقابل هذا المنحى الفردي واليومي، يتمسّك بعض الشعراء بخيط ممتد يصلهم بالتراث الشعبي، مثل مسعود شومان، وزين العابدين فؤاد، وأحمد عزب حيث يستلهمون الأمثال والحكايات الشعبية والرموز التراثية، لكنهم يعيدون صياغتها في سياقات شعرية معاصرة. بهذا الشكل يظل التراث جزءاً من عملية التجدّد لا عائقاً أمامها، ويؤكد أن العامية قادرة على إنتاج صور وأساليب حديثة من قلب مخزونها الشعبي العميق.
يبرز أيضاً مسار ثالث يقوم على الأداء الحي أكثر مما يقوم على النص المكتوب. ولعل تجربة كلٍّ من هشام الجخ وعمرو قطامش ومحمد أبو زيد تُعَدّ من أبرز ملامحه، إذ وجد هؤلاء في الوسائط الرقمية والمشهد الأدائي وسيلة لإيصال القصيدة إلى جمهور واسع، ليتحوّل النص من مجرد كلمات مكتوبة إلى حدث جماهيري بصري وسمعي. هنا يكتسب النص قيمته لحظة الإلقاء على المسرح أو عبر مقطع مصوّر على الشاشات الرقمية.
بهذا الانفتاح لم تعد قصيدة العامية أسيرة القوالب الفنية التقليدية. فقد تخلّت في كثير من الأحيان عن الوزن والإيقاع المألوف، مكتفية بما يُسمّى الموسيقى الداخلية للنص، أي الإيقاع النفسي القائم على التكرار والهمس والتكثيف.
بالعودة إلى الأجيال السابقة من شعراء العامية، يبدو الفارق شاسعاً، ففي النصف الثاني من القرن العشرين ارتبطت القصيدة بأسماء مثل بيرم التونسي وصلاح جاهين وفؤاد حداد وأحمد فؤاد نجم وعبد الرحمن الأبنودي. هؤلاء حملوا على عاتقهم همّ الجماعة، فكانت نصوصهم انعكاساً للتحولات السياسية والاجتماعية الكبرى، واتسمت قصائدهم بالغنائية الواضحة وبالإيقاعات التي يمكن أن تُغنّى وتتناقلها الذاكرة.
التحولات لم تقتصر على اللغة والموضوعات، بل شملت أيضاً طرق النشر والتلقي. ففي الماضي كان الشاعر ينتظر إصدار ديوان ورقي أو إقامة أمسية أدبية، أما الآن فقد أصبحت المنصات الرقمية هي النافذة الأوسع. هذه النقلة جعلت العامية أكثر ديمقراطية في الانتشار، لكنها أوجدت في الوقت نفسه حالة من التشتت؛ لم يعد هناك شاعر واحد يمثل جيلاً بأكمله، بل عشرات الأصوات المتفرقة، لكل منها جمهوره الخاص.
تعيش قصيدة العامية زمناً مختلفاً، يُعاد فيه تعريف العلاقة بين النص ووسيطه، وبين الشاعر وجمهوره، ولا تقدم نفسها امتداداً مباشراً لتجارب الماضي، ولا قطيعة كاملة معها، بل صوتاً جديداً يعكس إيقاع عصر سريع ومضطرب. إنها قصيدة الفرد في مواجهة الحياة اليومية، لكنها تبقى مع ذلك وفية لوظيفتها العميقة، وهي أن تمنح لحظة تأمل وسط الزحام، وأن تذكّر قارئها بأن اللغة العادية التي يتم تداولها في الشارع والبيت والمقهى قادرة، إذا ما أُعيدت صياغتها، على أن تحمل أعمق المشاعر الإنسانية.
وبينما يواصل المشهد الشعري انفتاحه على عشرات الأصوات والتجارب، من دون هيمنة لاسم واحد أو اتجاه بعينه، تظل قصيدة العامية المصرية مرآة دقيقة للتحولات الاجتماعية والثقافية الأوسع في مصر والعالم العربي. فهي قصيدة تبحث عن معناها في التفاصيل الصغيرة، لكنها في جوهرها لا تنفصل عن الأسئلة الكبرى التي يواجهها المواطن العربي اليوم، حول الحرية والعزلة، والبقاء في عالم يتغير بسرعة مذهلة.