"قصة طفلة فراشة من غزة": التضامن بعيداً عن الاستعراض

"قصة طفلة فراشة من غزة": التضامن بعيداً عن الاستعراض

08 ديسمبر 2020
(طفلان يقرآن قصة طفلة فراشة من غزة")
+ الخط -

صدر منذ أسابيع عن مطبوعات Q بروما كتاب باللغتين العربية والإيطالية لجانّا بازيني Gianna Pasi بعنوان "قصة طفلة فراشة من غزة" يعود ريعه بالكامل إلى جمعية الإغاثة الطبية لأطفال فلسطين، PCRF – ITALIA".

الإصدار الذي يقع في 140 صفحة بين نص أصلي وترجمة، يأتي للتوعية بمرض "انحلال البشرة الفقاعي" الولادي الذي يعرّض بشرة المصابين به للالتهابات الدائمة وتشوهات في الأطراف بسبب هشاشة جلدهم وكأنه جناح فراشة، ومن هنا أتى عنوان الكتاب الذي زيّنت صفحاته رسومات رسّام الكاريكاتور الإيطالي "فولياتسا" مصحوبة باثنتي عشرة بطاقة تلوين من توقيع الفنان نفسه، مع تعقيب للناشر، الأكاديمي والمترجم الفلسطيني المقيم في روما وسيم دهمش.

الصورة
(جانّا بازيني)
(جانّا بازيني)

يتوزّع العمل على أحد عشر فصلاً أتت تحت عناوين "مارينا بورغتّي تغني لأطفال الفراشة"، "مقدمة مارتينا لكتاب جانّا المُمرضة في غزة"، "ساندرا تحكي عن يوم ولادة مارتينا"، "جانّا بازيني تحكي لنا قصة طفلة فراشة من غزة"، "جانّا بازيني تحكي لنا عن لقائها بالأطفال الفراشة في غزة"، "دانييلا ريفا تروي كيف تعرفت على حازم والأطفال الفراشة الآخرين في غزة"، "دانييلا ريفا تشرح لنا ما هو مرض "انحلال البشرة الفقاعى"، "مارتينا لويزي تروي لنا كيف يقوم فرع إيطاليا لصندوق إغاثة أطفال فلسطين بعلاج الأطفال الفراشة في قطاع غزة"، "وسيم دهمش يروي كيف عرف بوجود أطفال فراشة في غزة وكيف تعرف على مرضهم".

وعلى الرغم من موضوع العمل الذي كان من الهيّن معه الانحراف لخطابات بورنوغرافيا الألم التي تعرف زخماً كبيراً في إيطاليا والغرب مع انتشار وسائل التواصل الاجتماعي في السنوات الأخيرة وسهولة الانجراف إلى الاستعراض وجمع "اللايكات" بين النشطاء الإنسانيين حتى إن كان ذلك على حساب مواضيع حسّاسة كالحرب. إلا أن المشرفة على العمل جانّا بازيني والناشر وسيم دهمش بالإضافة إلى الرسام فولياتسا تمكنوا في "قصة طفلة فراشة من غزة" من تقديم محتوى إنساني وفنّي مرهف نجح في نشر الوعي بأهمية التضامن الدولي من أجل دعم مشاريع علاج المصابين بهذا المرض داخل فلسطين، على نحو يحفظ كرامة الأطفال، ودون الوقوع في فخ ما أطلقت عليه كلوي ميلي بـ"بورنوغرافيا الصدمات"، وذلك بالإشارة إلى شذوذ نفسي يتمثل في الافتتان بآلام الآخرين، عرف انفجاراً قوياً في الغرب في السنوات الأخيرة.

الصورة
غلاف الكتاب

ففي مقالها الشهير الذي نُشر العام الماضي على موقع INCITEJOURNAL لجامعة سوراي البريطانية تحت عنوان "في اللاجدوى من استهلاك الألم في عصر بورنوغرافيا الصدمات"، أجابت كلوي عن سؤال جوهري فرضه واقع جديد لإعلام يسهل فيه مشاركة كل شيء وأي شيء على الشبكة: "هل تعتبر مشاركة فيديو مؤلم لشخص 
يعاني وسيلة فعّالة لنشر الوعي؟ أم هو العكس تماما؟". 

وقد أتى جواب كلوي في مقال تحليلي فذ، إلى أن هذا النوع من المحتويات التوعوية الإباحية عدا عن أنها تكرّس لصور عنصرية مضمرة ذلك أن من يتم تداول معاناتهم هم دوماً أشخاص من ذوي لون بشرة وثقافة محددتين من جهة، فإن هذه الحملات التوعوية البورنوغرافية لا تساهم في حل أي مشكلة بل تزيد من الإحساس بالعجز أمام المآسي، وتنتهي بصناعة مجتمعات متبلّدة. ولكن ما الذي يدفع لانتشار هذا النوع من التوجه الإباحي بين النشطاء؟ تجيب الكاتبة أن "بورنوغرافيا الصدمات ليست سوى نتاج للطلب المتزايد على المحتويات الشنيعة (في عصر التبلّد الحسّي الذي يضرب العالم)، التحيّز العنصري المتفشّي في الغرب، الرغبة اللاواعية أو الواعية في أن يُنظر إلينا على أننا أشخاص طيّبو القلب – وهو ما يدخل في صميم الطابع الأدائي لوسائل التواصل الاجتماعي".

ولكن كيف تمكّن كتاب يتناول مرضاً موجعاً يصيب البشرة والأنسجة المخاطية الداخلية للجسم، من تجنب الوقوع في مستنقع لعبة الضحية والاستثمار في الألم على غرار خطاب الكثير من الحركات السياسية والاجتماعية الإيطالية التي لم تنجح في صنع حالة تضامن إيطالية حقيقية ذات نتائج ملموسة مع القضية الفلسطينية، بسبب خطابها الأيديولوجي الصدامي الذي يقصي الغالب الأعم من المجتمع الإيطالي بالنظر إلى المعطيات السياسية الداخلية؟ وفي المقابل كيف نجحت "قصة طفلة فراشة من غزة" في تحريك المياه الراكدة بعفوية وخلق تجاوب جميل مع هذا الاصدار خلال موسم الأعياد هذا الذي تعيشه إيطاليا في ظروف استثنائية؟ قد يكون الجواب بسيطاً جداً: حِسّ الكاتبة الفطريّ في تفادي الصّدامية، وخبرتها في التعاطي مع بشرة هشّة كبشرة "أطفال الفراشات" ومنه أيضاً مع المواضيع الحساسة التي تستدعي رقّة عالية في الطرح. وهو ما جعلها تعتمد لغة تلقائية بسيطة وغير متحذلقة. 

مقاربتها للسياسي بعدسة طفولية شفّافة وبريئة لا مجال فيها للأيديولوجي: "أحيانا لا أعرف ماذا يؤلم أكثر قنبلة تنفجر أو بشرة تفقع". توظيف العمل لخطاب فني جميل، حيث افتُتح الكتاب بأغنية للأطفال أتت بترجمة عذبة باللهجة الفلسطينية: "... والله جلدك هادا غريب كتير/بيعمل رسومات زي حكايا جدو الكبير/بتنحكى لكل أطفال الكرة الأرضية/عشان كل الناس يعرفوا أن البقع الوردية/ المعمولة من أجنحة سحريه/ موجودة فعلا مش خيالية". 

خطاب بصري مُنعش من خلال لمسة الفنان فولياتسا المتقنة، بالإضافة إلى إشراك الأطفال في تلوين البطاقات المرفقة مع الكتاب وهو ما خلق حالة تجاوب حسّية مباشرة مع مضمون العمل. والأهم من كل هذا وذاك خلق تقاطعات بين المصابين الإيطاليين والفلسطينيين بمرض "انحلال البشرة الفقاعي" بغض النظر عن خلفياتهم الاجتماعية والاقتصادية حيث تربط جانّا بازيني في عملها هذا صلات روحية بين أطفال غزة المحاصرة وأطفال بريشا أغنى مقاطعات إيطاليا! وهكذا يأتي هذا العمل ليؤكد لنا على أن الاستثمار في الفن الجمال والطفولة هو الاستثمار الحقيقي بين الشعوب... وليس الاستثمار في البورنوغرافيا على اختلاف أشكالها.

 

* كاتبة جزائرية مقيمة في إيطاليا 

 

آداب وفنون
التحديثات الحية

 

المساهمون