قارئ في غرفة مظلمة

قارئ في غرفة مظلمة

23 نوفمبر 2020
من عمل لـ علي مقوص
+ الخط -

يحرصُ الروائيّ على أن يُبقي مسافةً بينهُ وبين الموضوع الذي يكتب عنهُ، ودافعهُ إلى ذلك هو البقاء محايداً إزاء الشخصيات؛ أن يساعدها على أن تفكّر بمنطقها هي، أن تتحرّك بما تشاء من أهواء وفي المساحات التي تناسبها من آراء وعواطف.

يطلبُ الكاتب من نفسهِ أن يبقى واعياً إزاء انفعالاتهِ العاطفيّة، لا أن يُلغيها. وإنّما أن يجيدَ إدارتها، فحزنهُ قد يدفع إحدى شخصياته إلى ترك صديق، أو الدخول في نوبةِ كآبة. وهو إذ يتيحُ للشخصيات بأن تتحرّك، فهو يعطيها من مساحتهِ هو، قد يَتَقنّع بالراوي. لكن في أعماقهِ يدركُ أنّه يغيب فيما يكتب، لا يتلطّى وراء النص، وإنّما يختفي فيه.

يتورّط الكاتب في عالمٍ مصنوعٍ ومُفَبرك، مهما تبدّى بهيئة عالمٍ بريءٍ وتلقائيّ. فالكتابة الجيدة هي التي يُجيدُ كاتبها فبركة التأثيرات. كي تُوهِمَ القارئ، أنّ المصائر التي يقرأها هي مصائر حقيقية لأناسٍ قد يشاهدهم في حياتهِ، وقد يؤثرون على مصيرهِ، وفي قصصهِ العاطفيّة وصداقاتهِ. بذلك يطلبُ الكاتب من نفسهِ، أن يقصر دوره على اقتناص القارئ، ونسجِ الشّراك للإيقاعِ بهِ. إن كان للكاتب أن يتباهى فليس بالشخصيات التي يبتكر مسارات حياتها، وإنّما بتقييده القارئ إلى نصه. عبر إيهامه أنّ الشخصية المكتوبة قد تؤثر على مصيره، بما يصنع من كلمات وبما تُصدّرهُ الكلمات من مشاعر.

تبدو حقائق مؤلمة؛ أن نعرف أنّ الكاتب يستثمر مشاعره هو، حتى يُحرّكَ مشاعر الآخرين، ويستمّدُ من نفسهِ ما يمنحهُ للغير. الكاتب يغامرُ بذاتهِ ويحاول النجاة من المتاهات التي لا يتوقف عن صناعتها، كي يدفع الآخرين للخوض فيها والتلوّثِ بها. يلتزم الكاتب آنئذٍ بألّا يصدِّقَ ألاعيبهُ، وألا يُدرجَ مصيرهُ في ما تؤول إليه الأحداث التي يُحرّكُ خيوطها فوق الصفحات. 

يستثمر الكاتب مشاعِرَه حتى يُحرّكَ مشاعر الآخرين

إحدى الروايات التي تشيرُ إلى هذا التفصيل المؤرق الخاص، والذي تلمسهُ قلّةٌ من مجموعِ البشر الهائل، هي رواية بول أوستر الشهيرة "رجل في الظلام". والتي تتحدّث عن ناقدٍ متقاعد مُقعد يكتبُ قصصاً خياليّة بعد إصابته وفقدهِ زوجته، وقد عانى من تصوّرات الحرب، فقد قُتل صديق حفيدتهِ والتي تسكن معه في حرب العراق. يجلسُ الكاتب المُتَخيَل في غرفةٍ مظلمة، وفي جوٍ من الإحباط واليأس، يكتب حكايةَ حربٍ أهليّة في أميركا. تتفقُ الشخصيات التي يكتبُ مصيرها على تكليف أحد الشخصيات بالخروج من حكاية الحرب، كي يَغتَال كاتبها، في سعيها لإيقاف الموت في الحكاية. يفكر أوستر بأن يقتل كاتبه الذي يقتل البشر في روايتهِ، وباستخدام الشخصيات المكتوبة، كي يوقف الحرب المُتَخيَلة، ويشيرُ بذلك إلى هذا التشابك المُربك بين مصائرهما. إنّه يأخذ جانب الشخصيات التي تريد أن تنجو من واقع الكاتب وأزماته التي تفجّرت في السرد.

لو أردنا التفكير بمصير الكاتب الذي يروي أوستر حكايتهُ، كيف لأوستر أن يتدخلُ لدى نفسهِ، كي ينقذَ واحداً من رفاق مهنتهِ. وكيف للكاتب أن ينجو من الشّرَك الذي صنعهُ للشخصيات، وهو من يملك حبل المشنقة وكرسي الإعدام ومكان المُحاكمة. لكن كيف ينقذ نفسهُ، وهو يعي أنّه لم يعد يمتلك تلك النَفْس التي كان قد منحها للآخرين. تدفعُ رواية أوستر، التي يمكن اعتبارها مثالاً لورطة الكاتب في نصهِ، بالقارئ إلى التفكير بإنقاذ الكاتب الذي وهو يقصُ حكاية الفناء التي تمثلها الحرب، وجد نفسهُ يفكّر بأن يفني ذاته أيضاً. 

يُصعّدُ أوستر الموقف الدرامي للكاتب، حدّاً يُهددهُ بالموت، وقبل أن يتهدّدَ الموتُ الكاتبَ، يكون قد نقلَ لوثتهُ إلى قارئٍ يجدُ نفسهُ في غرفةٍ مظلمة تُطبقُ عليهِ المصائر وتكادُ تخنقه.


* كاتب من سورية

موقف
التحديثات الحية

المساهمون