في معنى البيت

19 سبتمبر 2025   |  آخر تحديث: 06:03 (توقيت القدس)
لؤي كيالي/ سورية
+ الخط -

استمع إلى الملخص

اظهر الملخص
- البيت يمثل الإنجاز الحضاري الأكثر حميمية في حياة الأفراد، حيث يوفر الحماية والدفء للأسرة، ويعزز الارتباط بالمكان الأوسع الذي يُدعى وطناً، كما يظهر في رمزية مفاتيح البيوت التي يحتفظ بها الفلسطينيون كذاكرة مكانية حية.

- تدمير البيوت في سوريا منذ 2011 يعكس استعارة شيطانية مشابهة للسلوك الأميركي تجاه الهنود الحمر والصهيوني تجاه الفلسطينيين، حيث يُستخدم كوسيلة لتدمير الذاكرة والهوية.

- الأدب السوري لم يعطِ أهمية كافية لفقدان البيوت، حيث يفتقر إلى التعبير عن الحنين والشوق للحميمية، ولم يظهر عمل أدبي يتناول خسارة البيت كرمز للهوية والانتماء.

بعيداً عن الاستعمالات المتعددة للبيت في عناوين الروايات والمسرحيات، يحتفظ البيت بمعنى مباشر هو أنه المكان الوجودي الحي للبشر. ربما كان البيت الإنجاز الحضاري الأكثر قرباً، وحميمية، في التاريخ الخاص للأفراد، والأسر، إذ منذ أن تمكن الإنسان من تكوين عائلة، مؤلفة من زوجة، وأولاد، اتجه بحماسة لبناء مكان يضم تلك الأسرة ويحميها من الأخطار المحتملة التي ترشحها الطبيعة من حوله، سواء كانت أخطاراً متجسدة في بني البشر الآخرين، أم أخطاراً محتملة من كائنات الطبيعة المتوحشة. 

يمكن للوطن أن يعتبر بيتاً، أحياناً، غير أن البيت باعتباره وحدة مكانية هو الأكثر تقديساً لدى الإنسان، وهو الذي يزيد في ارتباط البشر بالمكان الأوسع الذي يدعى وطناً، ولهذا وجدنا الآلاف من الفلسطينيين الذين اقتلعوا من أوطانهم، يأخذون معهم مفاتيح بيوتهم، ويحتفظون بها طوال سنوات أعمارهم، وربما يورثونها لأبنائهم وأحفادهم، كي تظل الذاكرة المكانية الصغرى حيّة، بوصفها التعبير المثالي عن المكان الأكبر،  ونحن نذكر أن بطل رواية غساني كنفاني "عائد إلى حيفا" إنما كان يعود إلى البيت، كما قال سعيد. س لصفية زوجته، حين سألته لماذا يريد زيارة حيفا، قال: "نرى بيتنا هناك. فقط نراه".

تعرض أفلام الغرب الأميركي كيف كان المستوطنون الأوائل في أميركا، يشنون غارات على مساكن الهنود الحمر، فيحرقونها، أو يقتلعونها. كانت تلك أفعالاً رمزية، تعمل على تدمير العلاقة العاطفية بين الفرد، أو الأسرة، والمكان. والمقصود هو تدمير الذاكرة. 

لم يظهر عمل أدبي سوري يتناول خسارة البيت الخاص بالكاتب

لا يعرف معنى البيت إلا من فقَد البيت، الباقون قد يتعاطفون، ولكنهم سرعان ما ينسون. فالبيت ليس مجرد جدران وأبواب ونوافذ، وهي ذات أهمية لا تضاهى لصاحب أي بيت، ولكنه كل تلك الأشياء في داخل البيت التي تصنع الذاكرة الحميمة شديدة الخصوصية.  

وهناك آلاف البيوت التي مُحيت في سورية، أو هجّر سكانها، يمكن القول إنه سلوك سوري خالص لم يحدث في أي بلد عربي آخر، بحسب ما أعلم، بل إنه يبدو في محتواه استعارة شيطانية مثالها السلوك الأميركي، تجاه الهنود الحمر، ثم الصهيوني تجاه الفلسطينيين. وقد بدأ نهج تدمير البيوت منذ عام 2011، ولم يتوقف حتى اليوم، والصورة متكررة بطريقة شديدة الوحشية، من قبل الجيش السوري، في العهد البائد، وفي الحكم الحالي، ومن قبل المقاتلين الملحقين به. 

اللافت أن موضوع فقْد البيت، على الرغم من أنه الأكثر حرارة، وتأثيراً من الناحية العاطفية في حياة الأفراد، لم يلق اهتماماً يعادل أهميته الوجودية بالنسبة لكل إنسان. تجاهل الأدب السوري هذه الحالة عموماً، ويمكن القول إن نوعاً من اللامبالاة بالبيت، قد ظهرت في غياب النصوص الشعرية أو الروائية، التي لم تحاول حتى أن تستعيد البيوت، يفتقر الأدب السوري إلى نغمة الحنين والشوق والدنف تجاه الحميم في الحياة الخاصة للأفراد. ولم يظهر بحسب علمي أيضاً، عمل يتناول خسارة البيت الخاص بالكاتب، كما لم يظهر بوصفه مكاناً عامّاً يمكن تناوله من حيث ارتباطه بالهوية، والانتماء المحلي، والخصوصية الثقافية في فن العمارة، على الرغم من عشرات آلاف البيوت السورية قد تهدمت، وما زالت تهدم.

* روائي من سورية

موقف
التحديثات الحية