استمع إلى الملخص
- بعد سقوط النظام السوري، لم تتفق الأطراف على توصيف موحد للصراع منذ 2011، مما يعكس تعقيد الصراع ويؤثر على جهود الحلول المستدامة.
- يجب على السوريين تعزيز مفاهيم السلم الأهلي والانتقال الديمقراطي والعدالة الانتقالية، وتحويل مفاهيم الأكثرية والأقلية إلى مفاهيم سياسية لبناء مجتمع ديمقراطي.
في الكثير من المواقف التي تحصل في سورية منذ إسقاط النظام غير الوطني الذي حكم البشر والحجر، يرصد المتابع فقر البنى السياسية من أحزاب وقوى، واقتصار الحديث السياسي المنضبط في الأعراف الدستورية على أفراد قليلين، وحديثُهم غير مرغوب فيه من شارع عريض. إنّه فقرٌ أجدب، يمكن تحديده في غياب المفردات السياسية، وفي غياب الاتفاق عليها وكثرة تأويلاتها، إلى درجة قد يأخذ قولٌ بعلمانية الدولة المأمولة تهماً لا سبيل إلى حصرها، تبدأ بالعمالة للنظام السابق، وتنتهي بالشرف.
ذلك عدا عن عدم الاتفاق على الأولويات في بلد شهد لحظة حسم صراعٍ استمرّ لسنوات طويلة، صراع شائك ومعقّد إلى درجة أنّه وحتى بعد انتهائه لم تتّفق جموع السوريّين على تسميةٍ جامعة لما بدأ مساره عام 2011 مع نزول سوريّين إلى الشارع ومطالبتهم بإسقاط النظام. إذاً، يبدأ الشقاق السوري من توصيف الصراع، وهو صراع اشتمل على صنوف عديدة من الروايات؛ إحداها بأنّه ثورة، إحداها بأنّه صراع على السلطة، إحداها بأنّه حربٌ أهلية، أو اقتتال أهلي.
بالطبع، بعد سقوط النظام بالطريقة التي حدثت، وعدم اعتقاد رأس النظام أنّه مكلّف بتوضيح بسيط قبل فراره، أصبحت سرديات النظام سرديات لا يُعتدّ بها البتّة، مثل الحديث عن مؤامرة عليه؛ فالمؤامرة - إن وُجدت - كانت على سورية كلّها، ويمكن التساهل معه بالإقرار بالمؤامرة، بعد الاتفاق أنّه كان أداتها الرخيصة، بالسياسات التي اتّبعها خارجياً؛ على سبيل حذف أوروبا عن الخريطة، أو الامتناع عن الحديث مع تركيا، وكأنّ ما حصل في سورية عند رأس النظام لم يكن أكثر من مشكلات عائلية لم يكن يريد لأحد أن يتدخّل فيها، سوى بأن يجلب جاراً أو شرطياً يساعده في تأديب أهل بيته.
ثمّة ضرورة للحديث عن السلم والعدالة والديمقراطية
في جميع الأحوال، ما بقي من سرديات ما حدث في سورية، إلى جانب الثورة، هو فقط تلك العناوين التي تدور في فضاء الاقتتال الأهلي المرير الذي يبحث عن صيغة للتعبير عن نفسه، ولم يجدها إلى الآن.
توصيف الصراع، أحد بدايات الخروج من النفق السوري، لأنّ ما يترتّب عليه ضروري لمرحلة البناء المأمول، منعاً لإعادة تدوير آليات النظام السابق التي فتّتت السوريّين. حتّى إنّ الفقر في تعريفات السياسة يصل إلى حدّ عدم الاتفاق على توصيف النظام الذي كان قائماً؛ هل هو نظام طائفي يبحث عن مصلحة طائفة بعينها؟ أم أنّه نظام استخدم الطوائف، واستثمر وعزّز كل التناقضات السورية كي يبقى مسيطراً على العالقين تحت حُكمه. ثمّ، إن كان النظام ديكتاتورياً، غير وطني، بشكل مطلق، فما هو دور الأفراد، وحتى الجماعات تحت حُكمه، وما ممكنات فعلهم؟ وعندما قرّر الأسد أن يضرب شعبه بالبراميل المتفجّرة، في ذلك الشكل الرخيص من الموت، هل سأل أحداً؟ وإن سأل، فهل كان لأحد أن يؤثّر على قراره الوحشي بالاستمرار وفق الشكل الإبادي للحُكم؟ قطعاً، لم يكن لأحد ذلك، سوى لتلك الطغمة التي أحاطت به من جميع الطوائف، وساعدته في قتل البشر والتقييد عليهم وإبادتهم.
قبل البدء بإيجاد الحلول السورية، ينبغي الاعتراف بوضوح وشجاعة بجملة من المسائل التي تظهر بديهيات، إلّا أنّها ليست كذلك. وما حدث، أنّ الفقر في التعريف السياسي الذي سبّبته عقود الاستبداد أخذ يشتمل هذه المرحلة أيضاً، إلى درجة يتحوّل، أحياناً، إبداء الرأي البسيط إلى تهمة.
وإخال أنّ السوريّين اليوم في حاجة إلى تداول مفاهيم تُعزّز سياقات من قبيل السلم الأهلي، والانتقال الديمقراطي، والعدالة الانتقالية، وما إلى ذلك من عناوين كثيرة، عوض تعزيز أفكار تعيد آليات النظام للعمل، من قبيل "من يحرّر يقرّر". كما ينبغي سريعاً أن تبدأ تلك السياقات الديمقراطية التي تجعل الأكثرية والأقلّية مفاهيم سياسية لا أكثر.
* روائي من سورية