Skip to main content
في الاستيلاء على الدوعاجي.. تنويع تونسيّ على سجال الفصحى والعامّية
نجم الدين خلف الله
(علي الدوعاجي في بورتريه لـ طلال الناير)

ذاعَ حديثاً نَبَأُ فوز الكاتبة التونسيّة، فاتن الفازع، بـ"جائزة علي الدوعاجي"، بعد إصدارها رواية بـ العاميّة التونسية. وكالنّار في الهشيم، انتشر الخبر بعد أن تناولته الصحفُ وشبكات التواصل الاجتماعيّ. تساءل كثيرون عن وجاهة إسناد إحدى أهم الجوائز الأدبيّة الرسميّة في تونس لأثرٍ صيغ بِاللهجة المَحكيّة. فاشتعلت صفحات "فيسبوك" بالنقاشات، بين مُدافع عن أحقّيّة العاميّة لتكونَ لغة أدب، وبين مُنافحٍ عن الفُصحى، يَرى في مثل هذا التتويج هدماً لها، وهي أهم مقوّمات الهُويّة الوطنيّة. إلّا أنّ هذه السجالات قامت على التباسٍ كبير، حيث نفى رئيس "اتحاد الكتّاب التونسيين"، صلاح الدين الحمادي، تتويج فاتن الفازع بهذه الجائزة التي تُمنح عادةً ضمن فعاليات "معرض تونس الدولي للكتاب".

كلُّ ما في الأمر أنّ جمعية "دارجة"، التي تروّج للكتابة بِالعاميّة، اتّخذت مِن عليّ الدوعاجي (1909 - 1949) عنواناً لجائزة تَرعاها، ومن ثمّ جرى منحها إلى الفازع تكريماً لها على مُؤلّفاتها المتتابعة باللهجة التونسيّة. وهكذا، فَالجائزة التي نالتها الفازع لا صِلة لها بالتتويج الذي تبادر إلى ظنّ الخائضين في هذه السجالات. ومَن مَنح الجائزة ليس جهة رسميّة، بل جمعيّة أهليّة، لها أن تطلق ما شاء من الأسماء لمبادراتها ولا تحتاج في ذلك إلّا لطبع شهادة ورقيّة ودِرعٍ تُسلّمه إلى الفائز، كما تفعل سائر الجمعيّات في مراسم التكريم.

ومع ذلك، يبقى السؤال مطروحاً: إذا لم يكن "الاستيلاء" على اسم جائزة معروفة مقصوداً، خصوصاً وأنّ "معرض تونس للكتاب" ألغِي هذه السّنة والتي قبلها، بسبب جائحة كورونا، وبالتالي فإنّ اسم "جائزة علي الدوعاجي" غائبٌ منذ سنَتَين. ومن السهل أن يلتبسَ الأمر على الناس بين الجائزتَيْن. وتظلّ فرضيّة الجَهل بوجود جائزة بالاسم نفسه واردة. وهذا الجَهل بأبسط مظاهر الحياة الثقافيّة مصيبَةٌ أدهى.

فالأمر، إذاً، زوبَعةٌ في فنجان. ولا داعيَ لما ذهب إليه الكثيرون من إثبات الضعف الأدبي لرواية مكتوبة بالعاميّة. وما يعنينا من هذه الزوبعة استعمال اسم الأديب التونسي عليّ الدوعاجي عنوانًا لهذه الجائزة. وأن تضع جمعيّة "دارجة" جائزة باسمه يوحي بأنه أحد أنصار الكتابة بالعاميّة. وهذا من خطير المغالطات: ففي الحقيقة، لم يكتب الدوعاجي، وقد كان هذا السجال في زمنه حاميًا، نصّاً كاملاً واحداً بالدارجة التونسية، ولا تضمّنت كتاباته القصصيّة استخدامات للعامية إلّا في عبارات وحواراتٍ مُتناثرة هنا وهناكَ، بما يخدم نَصّه ويضفي سمة الواقعيّة على السرد، إقناعاً للقارئ بانغراس شخصياته في بيئاتها الاجتماعيّة. فَإنطاق تاجر بسيط أو طفل بالفصحى يُخِلُّ بمصداقية العمل الأدبي، ولا سيما إذا تعدّدت مستويات الخطاب، وحَضرَت شخصيّات لمثقّفين من أساتذة وعلماء دين ومُحامين وأطباء وأخرى لأناسٍ بسطاء.

وضع هذه الجائزة باسمه يوحي بأنه ناصر الكتابة بالعامية

ولم يكن يعني استعمال الدوعاجي للعامية، بأيِّ حالٍ، انتصاراً لها، في الكتابة الأدبية، على حساب الفصحى. بل إنّ المزاوجة بين سجّلَيْ العاميّ والفَصيح كانت رائجةً لدى الكتّاب، مَغرباً ومشرقاً، ونجدها لدى توفيق الحكيم ونجيب مَحفوظ وسهيل إدريس، وحتى في تونس كانت خيارَ الروائي البشير خرَيّف في "الدقلة في عراجينها".

والمفارقة ــ التي قد لا ينتبه لها من يعتقد أنَّ الدوعاجي من دعاة العاميّة ــ تتمثّل في أنّ أسلوبه كان من أمتن الأساليب الفصيحة وأشدّها احتراماً لقواعد النحو وتمكّناً من تراكيب البيان العربي، فَضلاً عن تحكّمه بآليات السَّرد القصصيّ. ويكفي أن نتفحّصَ عنوانَ مجموعته القصصيّة: "سَهرْتُ منه الليالي" لنرى رشَاقَة هذا التقديم والتأخير وجَزالته في الإنشاء. وعلى هذا النمط العالي، كان عنوان رحلته: "جَولة حول حانات البحر المتوسط". فقد فضَّل مفردة "حانة"، العتيقة، على مقابلاتها المُعرَّبة، إذ كان يمكنه اعتماد مفردة "البار"، بصيغة الجمع (بارات)، وهي في الاستعمال أكثَر شيوعاً. وعلى مثل هذه الاختيارات يُقاس سائرُ مُتون نُصوصِه ويُسبَر. وهو ما يؤكّده عُمدةُ الناقدين التونسيين، توفيق بكار، وهو أعلم الناس بفنّ الدوعاجي واختياراته المعجميّة، بعد أن أصدر مَجموعة أعماله الكاملة. ولطالما أشاد بكار بجزالة تَراكيبه ومَتانَة أساليبه في التصوير.

هذا، وقد اشتهر الدوعاجي بسخريّته من طبقة "البَلديّة" في تونس، بُعيد الحرب الثانية، وكانت حينها مُتماهية مع الغرب مُقلدةً لنمطه في الحياة. فرأى فيها طبقة منسلخةً كسلى، حتى في سلوكها اللغوي، فهي تَتهرّب من العربية، بمتانتها، هربَ السليم من الأدواء. ولو كان الدوعاجي بَينَنا اليوم لخَصَّ دعاة العامية بسخريته اللاذعة، ولَبَيَّن، في أناقةٍ، تَهافُتهم وتَوانيهم. ما تُراه فَعل لو عَلم أنّ هؤلاء انتحلوا اسمه لتبرير اعتدائهم على الثقافة والذوق السليم؟

لو كان الدوعاجي بيننا اليوم لخَصّ دُعاة العامية بسخريته

كان الدوعاجي يدرك أنّ الدارجة ليست لغةً ثانية، ولا لساناً منفصلاً عن الفصحى، بل هي سِجِلٌ من سجلاّتها، ومُستوًى من مستوياتها التعبيرية أدنى، يُستخدم في المعيش اليومي من الانشغالات، بحكم ارتِباط دوالّه بأشياء الحياة الاعتياديّة، من دون أن ينفي ذلك عبقريّتها في بلوغ تعبيرات رشيقة، لا تَبلغ مداها الفصحى. وهو ما يستند إليه بعضهم للدعوة إلى الذهاب بالأدب في اتجاه العامية، وهم بذلك يهدرون على المؤلّف الكثير من أجل القليل، فهل توجد عامية في منطقتنا لها قُدرات الضاد؟

لا، فللعاميّة ذاكرة قصيرة، مُشتّتة. وفي تونس وحدها ثمّة عاميّات متعدّدة. وكثيراً ما يَستغلق بعضها على أفهام أبناء البلد الواحد. وقلما ارتَبط سجلّ العاميات بِالمجرّد من الأفكار وبالعالي من الأحاسيس والمركّب من الصور، وهي العناصر التي يحتاجها "الأدب الرفيع" ولا تبلغه العامية، ليس على مستوى النصوص فحسب، بل حتى على مستوى الخطاب الشفوي. وها أنّ رجال السياسة كلما حاولوا التهرّب من مخاطبة العقول اتخذوا مسرباً عبر السجلّ العاميّ، حيث يَسهل تنويم العقل والتلاعب بالمشاعر.

وإذا قسنا نزوع الخطاب السياسي إلى العامية على الأدب، نجد أنّ الأخير يبحث هو الآخر عن تهرّب من التفكير وتحمّل المسؤوليات الاجتماعية المنوطة به، من إيقاظ للهمم وتعرية للواقع والبناء على المشترك ودعمه. ولا يسعُنا هنا إلّا التساؤل عما يكمن وراء الإصرار على استخدام السجل الدارج في الأدب، ولِمَ هذا الشطط في عدائيّة لغتنا الفصحى؟

أيكون ذلك لكسب القرّاء وقد قيل إنهم باتوا نافرين من الكتب؟ لكنْ، ما الحاجة إلى قرّاء يستهلكون النصوص الخفيفَة، ولا يلِجُون إلى أعماق النفس البشرية وجياد أفكارها؟ أتكون الهجرة إلى العامية مجرّد جَرْيٍ وراء الشهرة؟ والرأي هذا مَردودٌ على أصحابه: أن تكتب بالعامية التونسية يعني أنّك تجعل من القارئ التونسي قارئَكَ الوحيد، ولا قدرة لك على مخاطبة المصري والسوري والعراقي، بل ربما حتى الجزائري والليبي، رغم تَداني الديار. أمّا الكتابة بالفصحى، فتَمنح الفَرصة حتّى يُلامس النصَّ كلُّ هؤلاء ويخاطِبَ مُترجمي الأدب إلى اللغات الأخرى.

كلّما اعتقدنا أنّ سجال الفصحى والعاميّة قد حُسِم، وَجدنا مَن يَنفخُ فيه النار. ولا يَأبه هؤلاء لما في ثقافتنا من أولويات ينبغي أن ننهمكَ في معالجتها. ها قد مرّ أكثر من قرن على ظهور مثل هذه السجالات، ولا يزال هناك من يروّج للعامية في عداءٍ للضاد مَجّاني سافرٍ، مع أنّها أعظم كنوز ثقافتنا، وأمّ لهجاتنا، لو كانوا يعقلون. حسبُهم جهالةً أنّهم إذا استنصروا بالدوعاجي وَجدوه مُنتصراً للفُصحى، لو دَرَوْا.


* كاتب وأكاديمي تونسي مقيم في باريس

آداب وفنون
التحديثات الحية