فيكتور رودريغيث نونييث: أكتبُ انطلاقاً من كوبا

فيكتور رودريغيث نونييث: أكتبُ انطلاقاً من كوبا

31 يناير 2022
فيكتور رودريغيث نونييث (العربي الجديد)
+ الخط -

إنسانٌ بالغ اللطف والبشاشة. يمكنك أن تجالسه في مطعم أو في مقهى على هامش مهرجان شعري أو معرض للكتاب فتنسيك روحه المرحة أنك في حضرة أحد عمالقة الشعر العالمي، تُرجم شعره إلى عشرات اللغات، وحصد مجموعة من أرفع الجوائز العالمية. 
"ما يهمّني في الشعر أنّه الشيء الوحيد تقريباً الذي لم تستطع الرأسمالية تحويله إلى سِلعة، والذي لم يستطع حتى أكثر الثوريين صِدقاً اختزالَه أو تدجينه"، جملة من خلاصات كثيرة يقدّمها الشاعر الكوبي في حديثه إلى "العربي الجديد".
ولد فيكتور رودريغيث نونييث  Víctor Rodríguez Núñez في هافانا عام 1955، وتنقل في مسيرته بين بلدان عدة قبل أن يستقر في الولايات المتحدة، وخلال كل تلك السنوات لم ينقطع عن زيارة بلده كوبا. نشر ستة عشر ديواناً شعرياً حازت العديد من الجوائز وأُعيدت طباعتها مرّات عديدة. من آخر هذه الأعمال "إقلاع" (2016، منشورات "فيزور")، و"فوراً، أو نقطة دمٍ على مستوى" (منشورات ريل أريا، 2018). 
صدرت مختاراتٌ من شعره في عشرة بلدان ناطقة بالإسبانية، وكذلك في ترجمات بلغاتٍ مثل العربية والألمانية والصينية والمقدونية والإيطالية والسويدية. شغَل، في الثمانينيات، رئاسة تحرير مجلّة "كايمان باربودو" (El Caimán Barbudo) الثقافية الكوبية، وترجم العديد من الأعمال بين الإسبانية والإنكليزية. حاصل على دكتوراه في الآداب الإسبانية من "جامعة تكساس في أوستن" ويعمل حالياً أستاذاً في "جامعة كينيون" بأوهايو في الولايات المتّحدة.

 

■ أنت مولودٌ في كوبا، وفيها نشأتَ وبدأتَ مسارك كشاعر. أيُّ مكان لهذه الجزيرة، لأهلها، ورائحتها، وتناقضاتها، في شِعرك؟
لطالما قلت إنني وإن لم أكن أكتب دائماً عن كوبا، فأنا أكتب انطلاقاً منها. الأرضُ الأم ــ وهي شيءٌ يختلف جوهرياً عن الأمّة ــ نظرةٌ قبل كلّ شيء. ينظر المرء إلى العالم من المكان الذي وُلد ونشأ فيه، حتى ولو كان ينظر إليه ورأسُه مقلوبٌ إلى الأسفل. كما أن كوبا ليست جزيرةً أو شعباً أو ثقافةً فحسب: إنها ثورة. بل هي الثورة الأكثر أصالةً وجذريةً بين تلك التي عرفتها أميركا اللاتينية، والتي سمحت لأبناء المزارعين والعمّال ــ مثلي ــ بالحصول على التعليم. جزءٌ من هذا التعليم تمثّل في نظرة جدلية ومادّية للعالم، وهي نظرة ساعدتني على التخلُّص من الستالينية في مقاربتي الجمالية الاجتماعية والواقعية الاشتراكية. أضِفْ إلى ذلك أنه يساعدني في أن أكون نقدياً بشكل عام ومع ذاتي أيضاً، أن أواجه الحقيقة بلا أحكام مسبقة، أن آخذ حذري من كلّ إيديولوجيا وألّا أُطَبِّعَ شيئاً، ولا سيّما الأشياء المصطَنعة. تلك هي نُواة الشعر بالنسبة إليّ.

■ غادرتَ كوبا وأقمتَ في العديد من بلدان القارّة اللاتينية قبل أن تستقرّ، نهايةَ الأمر، في الولايات المتّحدة الأميركية. هل يمكنك أن تحدّثنا قليلاً عن هذا المسار؟
نعم، عشتُ بدءاً من 1988 في نيكاراغوا أوّلاً، ثم في كولومبيا، قبل أن أصل إلى الولايات المتّحدة عام 1995. هذه الإقامات خارج كوبا أساسيةٌ في تطوّري كشاعر وكشخص. ليس ذلك فقط لأنّني تعلّمت الكثير من المجتمعات والثقافات النيكاراغوية والكولومبية والأميركية. فخلال هذه الفصول في الجحيم ــ لا يمكن للمنفى أبداً أن يكون فردوساً ــ كنتُ أمام ظرفٍ معيشيّ معيّن. وبما أن المرء لا يمكن له أن يعرف ذاته إلّا إذا نظر إلى نفسه من الخارج، بأعين الآخرين، فقد استطعت ــ من خلال تلك التجربة خارج كوبا ــ أن أكون كوبياً على نحوٍ أعمَق، واستطعت الوصول إلى وعيٍ لهويّتي متخلّصٍ من النزعة القومية. أعتقد أن أفضل وسيلةٍ للوصول لبلوغ هويّةٍ ما لا تكمن في التمايُز عن الغير، بل في التماهي. يعني ذلك، بعبارةٍ أُخرى، أن ينتقل المرء من نفْيِ الغيرية ــ وهو نفيٌ تتّصف به الفردانية والقومية ــ  إلى نفْي النفي، ومنه إلى التأكيد النقديّ للغيرية.

لم أكن لأحقّق شيئاً في حياتي لولا الاهتداء بالشِّعر

■ هل كان الشِّعرُ دليلَك، دائماً، خلال هذا الدرب؟ لأنّنا إذا نظرنا إلى تجربتك، نجد أنّ هنالك مراحل طويلة من حياتك لم تنشر فيها أيّ عملٍ شعريّ. لماذا؟
ليس لديّ شكٌّ بأنّني لم أكن لأحقّق شيئاً لولا الاهتداء بالشِّعر. هنالك العديد من التعريفات للشعر، وكلّها صحيحةٌ، في رأيي، باستثناء تلك الأكثر شيوعاً، التي تنظر إليه بوصفه "نوعاً أدبياً". لا يمكن للشعر أن يكون جزءاً من شيءٍ اختُرع بعده مثل الأدب. تلقّى الأدب تعريفَه من الموسوعيين الفرنسيين وقام الرومانتيكيون برفْعه إلى خانة الأسطوريّ في القرن الثامن عشر. أمّا الشعر، فقد وُجد حتى قبل الكتابة، وهو ما يزال، حتى اليوم، مُحافظاً على بُعدٍ شفاهيّ. أعتقد، ببساطة، أن الشِّعر هو كلّ ما يُعيننا على العيش. وفي حالتي، فإنّه صحيحٌ أنني لم أشارك بأيّ فعالية شعرية أو أنشر الكثير بين 1995 و2007، إلّا أنني لم أهجر الشعر أبداً. كان الشِّعر دليلي في سنوات التهميش الصّعبة تلك، سنوات البُعد عن أرضي وناسي، سنوات الحياة الأكاديمية الصارمة والعمل من أجيل كسْب العيش. المِحنة (adverse) هي المناقِضُ للمقطع أو البيت الشِّعري (verse) من وجهة نظرٍ تأثيلية، أي لناحية جذرهما اللغوي. وبالفعل، فإنّ أبيات الشّعر قد وُجدت لمواجهة المِحَن، طبيعةً كانت أم اجتماعية أم شخصية.

■ في واحد من حواراته، يقول الروائي الفرنسي لويس فرديناند سيلين إنه لا يمكن لنصٍّ ما أن يكون "مجّانياً"، أي أنّ على المرء أن يدفع ثمنه وأن يقامر بحياته ليصل إلى نصٍّ حقيقيّ، ما رأيك في ذلك؟
أتّفق تماماً مع سيلين. لا يمكنك أن تكتب قصيدةً جيّدة بشكل مجّاني؛ عليك دائماً أن تدفع مقابل ذلك: لا تدفع مالاً، بل من لحمك ودمّك. فمن ناحية، تتطلّب كتابةُ قصيدة جيّدة الكثيرَ من العمل، من الجهد العاطفي والصبر. يبدأ الأمر بتلك اللحظة الافتتاحية التي ما يزال البعض يسمّيها إلهاماً، ثم يأتي دور العمل المضني، الذي قد يستمرّ أياماً أو سنواتٍ. ومن ناحية ثانية، يتطلّب الأمر قبولاً للمخاطَرة، يتطلّب ابتعاداً عن الاستسلام للوصفات الجاهزة، وتحدّياً للتقليد والقواعد، المكتوبة وغير المكتوبة. لا ينطبق هذا الأمر على الشِّعر وحده، بل كذلك على الحياة الاجتماعية والشخصية. أمّا في حالتي، فإنّني لا أكتب كما يجدر بكوبيٍّ أن يكتب، سواءً داخل البلد أو خارجه: لستُ بشاعر بَلاط ولا شاعِراً مُعارضاً، بل شاعرٌ يحاول قدر الإمكان أن يكون مستقلّاً. فأنا لا أكتب للشعب، على طريقة الشعراء الثوريين القُدامى، ولا للمستهلكين، على طريقة كثير من شعراء ما بعد الحداثة. ما يهمّني حقّاً في الشعر هو أنه الشيء الوحيد تقريباً الذي لم تستطع الرأسمالية تحويله إلى سِلعة، والشيء الذي لم يستطع حتى أكثر الثوريين صِدقاً اختزالَه أو تدجينه.

التقسيمات والحدود في الشعر هي عنفٌ تمارسه العقلانية

■ تسعى، في شعرك، إلى مفاجأة القارئ عبر عقْد صِلةٍ غير متوقّعة بين وصف الكون من ناحية، واللحظات الحميمية من ناحية أُخرى. ما هي تلك الصِلة التي تراها بين المطلَق والفرديّ؟
أبحثُ عن شعرٍ لا يتوقّف عند حدود، شعرٍ عابرٍ للحواجز من قبيل الموضوعيّ والذاتيّ، المحسوس والمجرّد، الاجتماعيّ والشخصيّ. لا تبدو لي هذه الحواجز اعتباطيةً فحسب، بل هي عنفٌ تمارسه العقلانية؛ هذه العقلانية التي ــ بدلاً من أن تُساعدنا ــ تُعيق عمل التأمّل الذي من شأنه تغيير الواقع. أؤمن بأنّ العالَم واحدٌ في جوهره، وبأنّ الطبيعة والمجتمع والأفكار مادّةٌ فيه خاضعةٌ للتحوُّل. ولهذا، فإن قصائدي ليست مؤلَّفاتٍ تبدأ بتقديم موضوعها، ثم تعالجه، قبل أن تخلُص إلى خاتمة؛ ذلك أنّ التناسُقَ عنفٌ ضدّ المعنى، كما قلتُ قبل قليل. ولهذا أيضاً تجد الخروج عن قواعد الوزن الشعري، وكثرة الحذْف، وغياب الأحرف الكبيرة وعلامات الترقيم، أمراً شائعاً في شعري. بل إنه قد سبقَ لي أن اقترحت التخلّي عن التمييز بين المؤلّف والقارئ، لأنني أريد للقارئ أن يكون فاعلاً، أن يُكْمِل معنى النص وأن يكون، باختصار، شريكاً في الكتابة.


■ ما هي، في رأيك، الصفات التي أعطت شعر أميركا اللاتينية هويّته، والتي جعلته، في وقتٍ قصيرٍ نسبياً، واحداً من أعظم التقاليد الشعرية في تاريخ البشرية؟
ليس لدى شعر أميركا اللاتينية أيّ إحساسٍ بالدونية إزاء الشعر الأوروبي: لقد نُزع الاستعمار عنه منذ نهاية القرن التاسع عشر. لا يعرفنا جيّداً شُعراء ما يُسَمّى بالعالَم القديم، لكنّنا نعرفه جيّداً، وهذا ما يعطينا الأفضلية. شعراءٌ مثل روبين داريو، وغابرييلا ميسترال، وفينسينته هويدبورو، وسيزار فاييخو، وبابلو نيرودا، وأوكتافيو باث، وخوسيه ليزاما ليما، وسيزار دافيلا، وخايمي سابينس، وخوان خيلمان ــ وهنا لا أذكر إلّا عدداً قليلاً منهم ــ هم شعراء لا ينقصهم شيء حتى يحسدوا غيرهم عليه. بل إنّ الطليعية الشعرية والطليعية الاجتماعية، وهما في ذروتهما، تلتقيان في شعرنا. هنالك وعيٌ عالٍ بالآخر، وهَمٌّ حِواريّ، ورفضٌ جذريّ للانغلاق على الذات في هذا الشعر. أضف إلى ذلك أنه شعرٌ لا يقوم على خوفٍ من التعبير عن الأحاسيس ومن التفكير من خلال القلب، في الوقت نفسه. لقد طوّر شعر أميركا اللاتينية، في وقت قصير، لغةً منفتحة، مثقّفة وشعبية، تمتاز بقدرةٍ كبيرة على تمثيل الواقع الذي يبحث عن التغيير.

لا يمكن للشعر أن يكون جزءاً من شيء اختُرع بعده مثل الأدب

■ سبقَ لنا أن التقينا في المغرب، وها نحن نلتقي في تونس. ما فكرتك عن الأدب العربي، وعن الثقافة العربية بشكلٍ عام؟ كيف تنظر إليها؟
دعني أخبرك بمشكلة هي ليست مشكلتي فقط، بل ومشكلة القسم الأكبر من شعراء أميركا اللاتينية: لا نعرف الشعر العربي بما يكفي. أُتيح لي أن أقرأ الشعر الأندلسي والشعر العربي القديم أكثر ممّا قرأت شعراءً عرباً حديثين ومعاصرين. وعلى سبيل المثال، فإن من بين شعرائي المفضّلين، في كلّ العصور، ابن قُزمان، ذلك القرطبيّ البليغ والبديع الذي عاش في القرن الثاني عشر. أقوم بكلّ ما يمكنني فعله من أجل الاطّلاع على أعمال الشعراء العرب اليوم، ولحُسن الحظّ أن لديّ أصدقاءً رائعين من بينهم. أعتقد أن على شعراء أميركا اللاتينية والشعراء العرب أن يعملوا سوياً على معرفة بعضهم البعض بشكلٍ أفضل، وأن يبحثوا عن طرقٍ للتعاون والتكامُل. ثمّة، في أميركا اللاتينية، العديد من المجلّات والناشرين الذين سيُسعَدون بالتعريف بالشعر العربي في ماضيه وحاضره. كما أن أعرف أن هنالك الاهتمام نفسه في العالم العربي تجاه شعرنا. وكما يقول صديقي جلال الحكماوي، علينا مدّ جسرٍ كبيرٍ بين الجنوب والجنوب، ولندعْ قصائدنا حينها تعبر بحرّيةٍ بين الضفّتين.

نصوص
التحديثات الحية

المساهمون