فيرنر لامبيرسي.. رحيل قرب "مأدبة العيش"

فيرنر لامبيرسي.. رحيل قرب "مأدبة العيش"

23 أكتوبر 2021
فيرنر لامبيرسي خلال قراءة في أوهاين، جنوب بروكسل، 2012
+ الخط -

ليس ثمّة نظريةٌ اجتماعية واحدة حول التعلُّم والانتماء، وحول دخولنا عوالم اللغة والثقافة والهوية التي تشكّلنا، إلّا وتجزم في أمرٍ ما: لا نختار هذه العوالم، إنما هي التي تختارنا، أو، بالأحرى، نجد أنفسنا فيها صدفة. لغتنا وثقافتنا وهويّتنا تسبقنا، وتُعرِّفنا بمعنىً ما إلى أنفسنا. بهذا المعنى، يصبح الخروج من واحدة من هذه المحدِّدات أمراً ثورياً بحدّ ذاته، لا يحدث من دون مشقّةٍ، وربّما عُزلة.

في حالة الشاعر البلجيكي فيرنر لامبيرسي، الذي رحل عن عالمنا يوم الإثنين الماضي، 18 تشرين الأول/ أكتوبر الجاري، عن 79 عاماً (1941 ــ 2021)، فإنّ هذا الفعل الثوري يأخذ بُعداً مضاعفاً. ذلك أنّ خياره، في شبابه، هجران لغته الأم، الهولندية، للكتابة بلُغة "أجنبية" هي الفرنسية، لم يكن نتيجةً لتقلُّبات الصِّبا ونزعاته التحرُّرية، بل لرغبةٍ في الخروج من فضاءٍ عائلي مطبوع بالنازية والفاشية.

فوالد لامبيرسي ــ كما يقول في حوار له نُشر عام 2011 ــ ظلّ مأخوذاً بالنازية حتى نهاية حياته، وهو ما يُعلّق عليه بالقول: "ليس هناك إلّا طريقة واحدة للاعتراض على هذا. ليس من الضروري أن أُدين والدي (...). ما يجب فعله، بكلّ بساطة، هو القول بأن الفاشية ما تزال قائمة، وبأنها ستعود سريعاً، وبأن مسرح هذه العودة سيكون اللغة. ولهذا، فقد اخترت المواجهة وقرّرت (الكتابة) بلغة أُخرى". قرارٌ لم يتّخذه بمعزلٍ عن رغبة في الخروج من بلده، والانتقال للعيش في باريس.

رسمَ في القصيدة المعاصرة المكتوبة بالفرنسية مساحة متخلّصة من تعالي اللغة

بين عام 1967، الذي شهد صدور أولى مجموعاته الشعرية ("زهرة الآلام الشائعة")، ورحيله قبل أيام، أصدر الشاعر المولود في مدينة أنتويرب ــ في القسم الفلامندي من بلجيكا ــ أكثر من أربعين كتاباً في الشعر بشكل أساسي، ومن ثم في المسرح والمقالة. كثافةٌ في الكتابة والنشر لم تعرف توقُّفاً حتى في سنواته الأخيرة، حيث أصدر في الأعوام الثلاثة الماضية، فقط، تسعة عناوين جديدة في الشعر واليوميات وحتى النقد السياسي، وقد كان آخر ما أصدره مجموعة شعرية بعنوان "مأدُبة العيش" (2020)، صدرت في طبعة مزدوجة (فرنسية ـ هولندية) وبإصدار محدود، وتضمّنت قصائد تُظهر حنيناً وحبّاً كبيرَيْن لمسقط رأسه، مدينة أنتويرب.

مع رحيل فيرنر لامبيرسي، فقد الشعر الفرانكفوني واحداً من أكبر أسمائه المعاصرة، حيث استطاع صاحب "ممرّات سِرّية" (2007) رسْم مساحةٍ له في القصيدة المكتوبة بالفرنسية؛ مساحة متخلّصة من البلاغة المتعالية، حيث الرغبة في جعل الشعر حديثاً خافتاً وسِلساً، أو مرآةٍ لبساطة الأشياء، في فهم للغة. يكتب: "دخلتُ القصيدة/ من باب الصغير/ البسيط/ من باب الشغّيلة/ حيث ينتظر ذاك الذي يصعد الأدوار/ أن نمنحه الظِلَّ/ وسمندر الوقت". وفي إحدى قصائده الأخرى: "كان الكون ينتظر/ أن يلِجَه ذلك الصوتُ/ كما الضوءُ يلِجُ ثمرةً/ أو كما الماء/ في ضرع الجذور/ أو كالهواء/ في رئة طفلٍ وُلد للتوّ".

آداب وفنون
التحديثات الحية

المساهمون