"مقياس الأشياء" لـ فرناندو برونكانو.. بحثاً عن فهم جديد لما يجعلنا بشراً

25 مارس 2025
+ الخط -

استمع إلى الملخص

اظهر الملخص
- يطرح إيمانويل كانط في "نقد العقل المحض" أربعة أسئلة فلسفية حول المعرفة، الفعل، التوقعات، والإنسانية، حيث تتناول الميتافيزيقا، الأخلاق، الدين، والأنثروبولوجيا هذه الأسئلة.
- يشير فرناندو برونكانو في "مقياس الأشياء" إلى أن هذه الأسئلة لم تعد كافية في ظل التغيرات الحالية، داعيًا إلى إعادة تقييم مكان الإنسان ورفض الحتمية التكنولوجية.
- يدعو برونكانو إلى فهم جديد للإنسانية، مشددًا على أهمية الثقافة والمجتمع في مواجهة الفوضى، وضرورة الإيمان بقدرة الإنسان على تجاوز التحديات.

ماذا يمكنني أن أعرف؟ ماذا يجب أن أفعل؟ ماذا يمكنني أن أتوقع؟ وما هو الإنسان؟ طرح إيمانويل كانط بتفاؤلٍ في كتابه "نقد العقل المحض" هذه الأسئلة الأربعة، وحاول في الوقت نفسه الإجابة عنها. بالنسبة للسؤال الأول، وفقًا لكانط نفسه، تجيب عنه الميتافيزيقا. والثاني تجيب عنه الأخلاق. والثالث يجيب عنه الدين. والرابع تجيب عنه الأنثروبولوجيا.

لقد تعلّمنا، جيلاً بعد جيل، أن أسئلة الحياة هي هذه تحديدًا، دون أن ندرك أنَّ ثمة أسئلة أخرى تهاجمنا يوميًا ولم تُطرح على مذبح الفلسفة. من بين هذه الأسئلة التي تزعجنا ونحتاج للإجابة عليها، سؤال يولد منه القلق الوجودي المستمر الذي يطاردنا: ماذا يمكنني أن أفعل؟

يبدو أن إمكانية الفعل اليوم لم تعد مرتبطة بالإنسان. على الأقل هذا ما يقوله فرناندو برونكانو، أستاذ المنطق وفلسفة العلوم في "جامعة كارلوس الثالث" بمدريد، في كتابه الصادر حديثًا عن دار نشر "ديليريو" الإسبانية، بعنوان "مقياس الأشياء: الإنسانية والثقافة المادية"، والذي يهدف إلى شيء واحدٍ لا غير: التحقق من مكان الإنسان في العالم في ظلّ كلّ ما يحدث من تغيّرات سياسية واقتصادية واجتماعية وتقنية جعلت مقياس الأشياء كلها يتغير.

إنه استفسارٌ له خيط توجيهي واضح ومحدد: رفضُ كل ما هو حتمية تكنولوجية، أو بعبارة أخرى، الإيمان الراسخ بالقدرة الإنسانية في السيطرة على مصيرها، رغم كل ما تتعرض له من تحديات.

يأتي كتاب المفكر الإسباني استكمالًا لمشروعه الفكري، الذي بدأه بكتابه الموسوعي "الثقافة هي اسم الهزيمة" (2018)، ثم تبعه بــ"المعرفة المُنتزعة" (2020)، حيث عالج فيهما الضياع والحيرة والتناقضات التي تمرّ بها الإنسانية، إضافة إلى محاولته استكشاف البعد الأخلاقي والمعرفي والعاطفي للمكان الذي يتوجه إليه إنسان اليوم. وقد خلص برونكانو فيهما إلى ضرورة البحث عن مقياس إنساني غير ساذج يرقى إلى مستوى التحديات البيئية والتكنولوجية والسياسية التي تواجه مجتمعاتنا. أي بعبارة أخرى: كيف نفهم سياسيًا وثقافيًا أزمة النقد الحالية دون العودة إلى المواقف المعيارية العتيقة أو النشوة التسريعية أو نشوة ما وراء الإنسان التي تقترب من العدمية.

رفضُ كل حتميّة تكنولوجيّة، وإيمانٌ راسخ بقدرة الإنسان

يُقسم الكتاب إلى ثلاثة فصول رئيسية، هي: "مقياس الوكالة" و"مقياس الجلد" و"مقياس الأشياء". جميعها تعالج بشكل أو بآخر الأبعاد التي تجعل الثقافة قوة أساسية في تشكيل التاريخ: البعد المادي، الذي يتجسد في الأجساد والأشياء، وفي التفاعلات بين الأجساد والأشياء. وهنا يتناول الباحث العديد من الخطابات حول البعد المادي، وأبرزها الخطاب الاقتصادي الذي ينظر إلى البيئات البشرية من خلال فئات العرض والطلب، الوفرة أو الندرة، الإنتاج والتوزيع. فعلى الرغم من هيمنة هذا الخطاب، فإن هناك أيضًا مسارًا أكثر خفاءً ولكنه لا يقل أهمية، يتحدث عن كيفية تشابك مسارات الحياة، وروايات المجتمعات، وتوافر الأشياء ومعانيها، أي المواد التي تتكون منها الأجساد، والطاقة والمعلومات التي تتبادلها لتتكاثر وتعيش اليوم التالي.

غير أن هذا الخطاب الاقتصادي، تبعًا للكاتب، يقودنا، بشكل أو بآخر، إلى استخدام مصطلح "الجماهير"، الذي يضعنا بدوره أمام طريقة معينة في رؤية الناس. إنها تحديدًا الطريقة نفسها التي نرى فيها الأشياء كسلع، وهي الطريقة ذاتها التي يفكر بها السياسي أو الاقتصادي في الناس كموارد بشرية.

في مواجهة ذلك، يقترح المفكر الإسباني تطوير نظرة مختلفة، نظرة للأشياء كودائع للمعرفة، والثقافة، والمنتجات التي تنتج المجتمعات، الثقافات والهويات. لا يعني النظر إلى الأشياء كوسيط للإنسان تجنب الصراع والوضوح حول السلطة والسيطرة؛ على العكس، إخفاء السلطة تحت أشكال اقتصادية واجتماعية مجردة وغامضة دائمًا يمنعنا من رؤية أنَّ القمع والعنف موجودان بالفعل في الجلد، في الأحذية، وفي الروائح أو الأبخرة التي تحيط بالأجساد.

عند هذه النقطة، تحديدًا، يبدأ مقياس الأشياء. فكلُّ شيء له مقياسه: ثمّة مقياس كونيٌّ وأرضي هو الذي يشير إلى أننا غادرنا العصر الهولوسيني ودخلنا عصر الأنثروبوسين، أو عصر التأثير البشري الذي يعود تاريخه إلى بداية التأثير البشري الكبير على جيولوجيا الأرض والتقنية، بما في ذلك تغيّر المناخ بشري المنشأ وتأثيره على الأرض والإنسان.

وثمة أيضًا مقياسٌ تاريخي هو الذي يُظهر لنا تحوّلات الرأسمالية ما بعد الصناعية نحو نمط معرفي عالمي، والذي تحوّل من استغلال وقت العمل إلى استغلال واسع النطاق ومكثّف لكل شيء تقريبًا. هناك أيضًا مقياس الحياة: مقياس أعمار البشر، الذي يخبرنا عن تدهور الجسم، وضعفه، وقصر الشباب.

تطوير نظرة مادية مختلفة للأشياء كودائع للمعرفة والثقافة

وهناك مقياسٌ للأيام والساعات والثواني: حيث نعيش الحبّ وغيره من المشاعر الأساسية، وحيث نبني طريقة العيش التي نسميها الحياة. تتشابك هذه المقاييس كلها، مقاييس الإنسان، الجسد والأشياء في تاريخ الثقافة وفي المنظور الثقافي للتاريخ. وعند العودة إلى الأشياء، بمعنى مختلف تمامًا عما يُفهم عادة في الفلسفة، نكتشف الحالة الهشة للوكالة البشرية، التي تعاني من أربع أشكال من الهشاشة: عدم القدرة على رسم خرائط للواقع، الوجود والتموضع في الواقع الملموس، توجيه الخطوات إلى ما بعد رد الفعل الفوري، والأهم من ذلك كونها مرضًا للمثقفين، الخطأ في مقياس الفعل، التفسير والمعنى. ومن خلال تشخيص هذا المرض يجب أن نبدأ.

هنا يعود الباحث الإسباني إلى العلاقة بين الثقافة والمجتمع كوسيلة لإنتاج النظام في مواجهة الفوضى، ومواجهة مصير القوة والموت. ففي أصل كل ما هو اجتماعي وثقافي توجد رغبة في النظام، التي تُعهد أحيانًا إلى الآلهة والملوك، وغالبًا إلى المجتمع نفسه: النظام في المكان والزمن، من خلال الطوبولوجيا التي تنشأ من الممارسات الاجتماعية في البيئات الطبيعية؛ النظام في العلاقات الاجتماعية من خلال تكوين الأسر، والعشائر، والقبائل، والدول، التي تتضمن أيضًا طوبولوجيا، حدود وفجوات، علاقات القوة، الفئات؛ النظام في الثقافة المادية، الذي يتضمن إنشاء مساحات من الإمكانيات؛ والنظام في الثقافة، من خلال المفاهيم والقطع الأثرية التي تخلق معاني أو دلالات.

في هذا الوسط المنظم ماديًا وثقافيًا واجتماعيًا، يجري الوجود الإنساني في تفاعل لا ينتهي لهذه الوسائط، وبذلك يتم إنتاج التاريخ في المساحات التي تشكّل أشكال الحياة: مساحات المعنى والدلالة، مساحات القيم والمساحات المادية للإمكانيات العملية. مساحة المعاني تُنتج بشكل رئيسي في اللغة، وتستوعب الموارد المعرفية، والأساطير، والمعتقدات والأيديولوجيات، وبشكل عام كل ما يجعل العالم مفهومًا.

إن دفاع برونكانو عن نظرية مادية جديدة هو دفاع عن فهم جديد لما يجعلنا بشرًا في عالم أكثر تعقيدًا، حيث لا يتمثّل دور المادة في ما هو متوقع، بل في تشكيل "عالم الوساطة أو الوكالة البشرية" الذي يجعل من الضروري تعريف أنفسنا باعتبارنا "بشرًا". إن هذا الالتزام المادي تجاه الإنسانية يؤدي إلى رفض كامل للتشاؤم واليأس الذي يأتي مع الاعتقاد بأن قدراتنا غير كافية لضمان المستقبل. إذا كان فيشر قد أخبرنا بأن "من الأسهل أن نتخيل نهاية العالم من أن نتخيل نهاية الرأسمالية"، فإن برونكانو يسعى إلى جعلنا نرى أن "الصعب" ليس هو نفسه "المستحيل".

المساهمون