فرحان بلبل.. حياة في المسرح السوري

22 يناير 2025
فرحان بلبل يتوسّط "فرقة المسرح العُمّالي" في حمص عام 1986
+ الخط -

استمع إلى الملخص

اظهر الملخص
- ركز فرحان بلبل في أعماله المسرحية على نبض الحياة الاجتماعية في سوريا والعالم العربي، معبراً عن الآلام والمطامح وضرورة التغيير، وبدأ مسيرته في 1969 مع تأسيس فرقة المسرح العمالي.
- قدم بلبل 18 عملاً مسرحياً وكتب دراسات نقدية، وأسهم في تأسيس فكرة المسرح العمالي الجوال، متناولاً قضايا الهوية والفساد، وأصدر كتباً عن المسرح التجريبي.
- رغم عدم دراسته الأكاديمية، عُيّن أستاذاً في المعهد العالي للفنون المسرحية، وألف كتباً عن الإلقاء وتأريخ المسرح السوري، موثقاً تاريخه بشكل شامل.

في شريط وثائقي يتناول مسيرته الفنية، يتحدّث المسرحي السوري فرحان بُلبل (1937 - 2025)، الذي رحل عن عالمنا قبل أيام، عن الأفكار التي وجهته، والتي تتمثل في "وضع اليد على نبض الحياة الاجتماعية في سورية والعالم العربي: الآلام، المطامح، عيوبها، تقاليدها، تطويرها، وتغيير المجتمع". وكان هذا هو دأبه منذ عام 1969، تاريخ إخراج عمله المسرحي الأول "الجدران القرمزية"، ومن ثم تأسيسه لفرقة المسرح العمالي. وقد قضى حياته حتى رحيله في أيام الخلاص السوري التي تمرّ بها البلاد، وتمكن أخيراً من رؤية ابنه الفنان والممثل المسرحي نوّار بلبل، الذي عاد إلى البلاد بعد فترة من المنفى حتى سقوط الطاغية الصغير.

ينتمي فرحان بلبل، المولود في حمص، إلى جيل الروّاد من المسرحيّين السوريّين الذين تفتّح وعيهم في مناخ كانت فيه هموم الاشتراكية والوحدة العربية هي السائدة، لكن الامتحان الحقيقي لكلّ تلك الأفكار جاء بعد نكسة حزيران/ يونيو 1967، والتي مثّلت جداراً ارتدَّت عنه الكثير من تلك الطموحات التي ما إن انكسرت حتى صار تمثيلُها يأخذ بُعداً تراجيدياً يهزّ المجتمع والسُّلطة معاً. فقد كان العطب مركباً، مثلما في "الجدران القرمزية"، ولا يمكن النظر إلى مواجهة الاحتلال دون اتخاذ موقف من تناقضات الداخل الطبقية والسياسية.

انشغل في نصوصه المسرحية بطموحات الحرية والتغيير

توزّعت نصوص الراحل المسرحية على 18 عملاً، أربعة منها للأطفال، كما قام بإعداد عدد كبير من النصوص العربية والأجنبية. وكتب العديد من الدراسات النقدية في الصحف والمجلّات السورية والعربية، وأصدر مجموعة من الكتب في النقد المسرحي، في حين تبقى فكرة المسرح العمّالي الجوّال أبرز مَعلمة تركها، ولم تتكرّر ثانية في تاريخ المسرح السوري، حيث قدّم عروض فرقته في معامل حمص والقامشلي ورميلان وصولاً إلى دمشق.

في عمله "الممثّلون يتراشقون الحجارة" (1975) ترميزٌ عالٍ، وتوليفةٌ تجمع التراث والمعاصرة، واستعادة لحدث تأسيسي في السردية العربية الإسلامية "عام الفيل"، مع إسقاط دلالاته على واقع عربي "مصدوم" بالنكسة. وإذا كان سعد الله ونّوس (1941 - 1997) قد أنجز "حفلة سمر من أجل 5 حزيران"، فإنّ بُلبل، كمُجايلٍ له، قدّم "الممثّلون يتراشقون الحجارة"، موسّعاً رمزيّات القول لتشمل فكرة الهوية والآخرية، ومتنبّهاً إلى انعكاس الهزيمة على الوقائع والسياسات الداخلية وعلى حرية الشعب والخشية من بزوغ عهد شمولي.

وفي مسرحيّته "يا حاضر يا زمان" (1982) نجدُ المسرحي العمّالي يستقرئ مجتمعه من خلال تعالق السياسة والفساد، مقدماً تحذيراً مبكّراً لما جنته الشمولية على البلاد، وكيفية استغلالها الأوضاع الاجتماعية. نحن أمام نُظم "اشتراكية" تقهر محكوميها ممّن وعدتهم بالثورة والحرّية، هكذا سجّل الراحل ملاحظاته "من مقعد المتفرّج"؛ وهو عنوان كتاب له ضمّ عدداً من دراساته المسرحية.  

ضمن هذه الرؤية، أصدر الراحل مجموعة من أبرز أعماله: "لا تنظر من ثُقب الباب" (1978)، و"العيون ذات الاتساع الضيق (1980)، و"القرى تصعد إلى القمر" (1980)، و"الصخرة والحفرة"، و"قطعة العملة"، و"الميراث" (1982)، و"لا ترهب حدّ السيف" (1984)، و"الليلة الأخيرة" و"ديك الجن" (2005)، و"عريس وعروس" (2007).

"الكلمة والفعل" (2003) هو عنوان إحدى دراساته التي تتناول نقد التناقضات التي تحكم العمل المسرحي من خلال المجتمع وتأثيره على آليات إنتاج المسرح. يتناول الكاتب بلبل الأوساط المسرحية المعاصرة، مشيراً إلى التوتر القائم بين فعالية النص المسرحي وجماليات العروض المسرحية المتقدمة. كما يستعرض كيفية اعتماد هذه الأوساط على "مادة نصية" بدلاً من النص المسرحي التقليدي الذي كان يشكل عماد النشاط المسرحي عبر العصور. يُبرز الكتاب ظاهرة المسرح التجريبي وما نتج عنها من تراجع ملحوظ للنص المسرحي. الغاية من هذا العمل هي تحفيز الكتاب على العودة إلى كتابة نصوص قوية، وتطوير أدوات النقد لدى النقاد لفهم النصوص الجديدة، وتشجيع المتلقين على القراءة والمشاهدة لتعزيز تجربتهم الفنية.

في كتاباته النقدية، تناول الراحل مفهوم التجريب بشكل عميق، حيث أصدر كتابه "المسرح التجريبي الحديث عالميّاً وعربيّاً". يعكس هذا العمل اهتماماته بقضية التجريب على الصعيدين العالمي والعربي، مع التركيز على تحليل معنى التجريب وجذوره التاريخية، بالإضافة إلى استكشاف أسباب ظهور المسرح التجريبي الحديث وخصائصه حتى نهاية القرن العشرين. كما يتناول الكتاب التجريب وتأصيل المسرح العربي، ويستعرض خصائص المسرح التجريبي العربي، قبل أن يقدم نماذج تطبيقية عربية توضح مفهوم المسرح التجريبي.

ورغم أن فرحان بلبل لم يدرس المسرح أكاديمياً، إلا أنه استطاع تجاوز أسواره من خلال ما قدّمه بشكل مباشر، فعُيّن أستاذاً في "المعهد العالي للفنون المسرحية" بدمشق منذ عام 1986 حتى 2011. وفي هذه السنوات ألّف واحداً من أبرز كتبه "أصول الإلقاء والإلقاء المسرحي"، منطلقاً من اعتبار أن النطق الصحيح بالكلام يُدخل الإنسان إلى عقول الآخرين وقلوبهم دخولاً سريعاً واضحاً. فلا تضطرب المعاني عند المتكلم والسامع، ولا يضيق أي منهما بالفهم أو الإفهام. ولأن اللغة وعاء الفكر البشري، فإن صحة وجمال النطق دليل رُقي الأمة ومقياس درجة حضارتها.

ولا شكّ في أن النُّطق الصحيح الجميل يقوم على النظام والترتيب. ولا يتحقّق النظام والترتيب إلّا بمجموعة من الأصول والقواعد التي تَعارف عليها الناطقون بلُغة من اللغات ويتبادلون الكلام بها، وهذه القواعد تصلح لكلّ المتكلّمين، ثم ينفرد كلّ منهم بقواعد خاصة بفئة في الكلام. ويُحاول هذا الكتاب أن يُجمل هذه القواعد العامّة لفنّ الكلام، ثم يُفرد فنّ التمثيل بقواعد إلقائه الخاصة به، حيث يبدأ الكتاب ببحث الصوت وينتهي بإسدال الستارة على نهاية العرض المسرحي.

كذلك التفت فرحان بلبل إلى تأريخ المسرح السوري، وهي قضية إشكالية اعترضته نظراً لخلفيته المهتمة بالتراث والثقافة العربية والإسلامية، ومن هنا ألّف كتابه "المسرح السوري في مئة عام 1847 - 1946"، مُنطلقاً من أنه لا يُمكن التفاعل مع المسرح من حيث الأداء والنظريات من دون أن تكون الخلفية التاريخية واضحة، ومدركاً أنَّ المسرح السوري لم يحظَ بكتاب يجمع تاريخه بين دفتيه، سوى كتب ودراسات متفرّقة لم تتناول إلا المسرح في دمشق بشكل رئيسي، وألمَحَتْ إلماحاً سريعاً إلى النشاط المسرحي في بقية المدن السورية.
 

المساهمون