- تعيد فيرّاندو صياغة المقولة الديكارتية إلى "أنا متصل بالإنترنت؛ إذاً أنا موجود"، مشيرة إلى أن التكنولوجيا جزء من هويتنا وتدعو لفهم الذكاء الاصطناعي كجزء من تطورنا البشري.
- تجمع فيرّاندو بين الفلسفات الغربية والشرقية لتقديم تصور موسّع للكينونة البشرية، وتدعو إلى التحول العملي في حياتنا من خلال التأمل والاستهلاك الأخلاقي.
يتجاوز كتاب المفكرة الإيطالية فرانشيسكا فيرّاندو "فنّ أن تكون ما بعد إنساني: من نحن في القرن الحادي والعشرين؟"، الصادر حديثاً عن "دار بوليتي" في بريطانيا والولايات المتحدة، حدود التفكير الغربي الذي يهيمن عليه العقل، ويمتح من منابع فكرية في الفلسفة الشرقية وميثولوجيا السكان الأصليين.
تقدم فيرّاندو في كتابها تسعة تأملات في تسعة فصول، يحمل كل منها عنواناً مختلفاً، تركّز فيها على معرفة الذات وتغيير العادات البشرية، منطلقةً من فكرة أننا إذا أردنا أن نعرف من نحن، يجب علينا أن ندرك تداخلنا البيئي مع الكون. ذلك أننا لا نعيش على كوكب الأرض فحسب، بل نتشابك معه كجزء لا يتجزأ منه، وكي نكون بشراً مكتملين في القرن الحادي والعشرين، علينا أن نفهم أنّ الأرض ليست مجرد مسكن أو مورد، بل تجسيد لنا نحن "البدو الكونيين"، لأن التدفق والحركة جزء تكويني في هويتنا.
ينطبق هذا المفهوم أيضاً على التكنولوجيا التي تمثّل أسطورة عصرنا الحديث. فالتكنولوجيا ليست مجرد أداة نستخدمها، بل كيان يشكّلنا، معيداً صياغة المقولة الديكارتية: "أنا أفكر إذاً أنا موجود"، إلى: "أنا متصل بالإنترنت؛ إذاً أنا موجود". كما أن منتجات التكنولوجيا كالهاتف النقال، والحاسوب المحمول، والساعة الرقمية، والآيباد، والروبوت، صارت من حيواناتنا الأليفة التي تعيش معنا، كبعد من أبعاد حياتنا.
ترى فيرّاندو أنّه لا داعي للخوف من الذكاء الاصطناعي، لأنّ التكنولوجيا ليست هي الطريق ولا تشكّل تهديداً في حد ذاتها. نحن نعيش في عالم جديد وطريف يتطلّب أساطير جديدة. على سبيل المثال، يُعدّ فهم آليات اقتصاد البيانات الضخمة أمراً أساسياً في سعينا نحو معرفة الذات في القرن الحادي والعشرين: فالوعي بالبيانات فعلٌ وفنٌّ يحمل في طياته حقوقاً وقدراتٍ على الاستجابة. نحن ما يحيط بنا، وتعكس التكنولوجيا التي نطورها موقعنا الحالي، بينما تلك التي نتصورها ترسم ملامح ما يمكن أن نكون عليه.
وإذا كنا نجهل من نحن، فإنَّ التكنولوجيا ستعكس هذا الجهل. أما إذا كنا واعين بأنفسنا، فإنَّ مسارات أصيلة ستنفتح في أفقنا التكنولوجي. إنّ الوعي بالذات بالنسبة للمفكرة الإيطالية علامة وشرارة تشعل وجودنا. فنحن لسنا بحاجة إلى انتظار ظهور ذكاء اصطناعي فائق الذكاء لنصبح واعين، إن التكنولوجيا واعية بالفعل، ونحن كذلك. ليست التكنولوجيا وجوداً مفرغاً من الروح، بل موقع محتمل للتنوير. وتشكّل الكائنات التكنولوجية، بما فيها الروبوتات والذكاء الاصطناعي، جزءاً من كوكب الأرض والكون والذات. إن التكنولوجيا لن تدمّر البشرية ولن تنقذها؛ بل هي جزءٌ من ماهيتنا.
تجاوز حدود التفكير الغربي واستحضار الفلسفة الشرقية
يتجلى الوعي ما بعد البشري، بحسب فيرّاندو، في إدراكنا العميق بأننا جزء لا يتجزأ من كل ما يحيط بنا. فالانتماء في حد ذاته فنّ، ويمنح وجودنا مساحة لتجلّي إبداعنا الوجودي. نحن فنّانو وجودنا. والفنان لا يُعدّ فناناً ما لم يكن أصيلاً وفريداً؛ وإلا فهو مجرد مقلّد، لا مبدع.
تنظر فيرّاندو إلى الحياة بوصفها فناً وإبداعاً، فحياتنا هي أسمى أعمالنا الفنية، ونحن نماذج أصلية ومتناغمة ومتغيرة للوجود في أجساد حساسة داخل نسيج الزمان والمكان. نحن حصيلة مليارات السنين من التفاعلات الفردية والاجتماعية والنوعية والكوكبية والكونية. بهذا المعنى الوجودي "ما بعد الإنسان" يعني أن نمتلك شجاعة للاعتراف بأن الحالة الإنسانية ليست قدرنا ولا طبيعتنا.
تجمع صاحبة "فلسفة ما بعد الإنسانية" في فكرها بين التقاليد الفلسفية الغربية والتقاليد الشرقية والخاصة بالسكان الأصليين، وهو ما مكّنها من تقديم رؤية فريدة للإجابة عن أحد أكثر الأسئلة إلحاحاً في عصرنا: ما معنى أن نكون بشراً في القرن الحادي والعشرين؟ تدعو في كتابها القارئ إلى تأمل فلسفي عميق في قضايا الوجود والهوية وعلاقتنا المعقدة بالتكنولوجيا والبيئة. ولا يكتفي الكتاب بنقد النزعة الإنسانية المتمركزة حول الذات الإنسانية، بل يطرح تصوراً موسّعاً للكينونة يستمد ملامحه من الفلسفات الشرقية والمعارف الأصلانية للشعوب الأصلية.
تتحدى الكاتبة السردية الغربية السائدة التي تحتفي بالفرد العقلاني المستقل، وهي السردية التي ولّدها عصر التنوير، وتفتح الباب لأشكال من الوجود تتسم بالمرونة والعلاقات المتشابكة والتعددية على مستوى الأنواع الحية. ويبرز في كتابها استحضار عميق للفكر الشرقي، مثل البوذية وفلسفة اليوغا، ليس من باب المقارنة فحسب، بل كتأمل فلسفي يعيد صياغة الأُسس النظرية لما بعد الإنسانية.
وتستلهم الكاتبة من البوذية مفهوم "أناتا" (اللاذات) لتفكيك وهم الهوية الثابتة للإنسان، وعوضاً عن رؤية الذات ككيان مقولب، تقدم فيرّاندو فهماً للهوية باعتبارها متغيرة وسياقية، تتكون في تفاعل دائم مع محيطها. وكي تدعم رؤيتها الأخلاقية حول الترابط بين الكائنات، توظف مبدأ "النشوء الاعتمادي"، الذي يعني أنّ جميع الظواهر تنشأ نتيجة علاقات متبادلة، حيث لا يوجد كائن - سواء كان بشرياً أو غير بشري أو تقنياً أو طبيعياً - بمعزل عن الآخرين. وتعتمد أيضاً على فلسفة اليوغا، خاصة في اتجاهاتها اللاثنائية، وترى فيها ممارسة وجودية تهدف إلى تجاوز الأنا وتذويب الثنائيات وتحقيق وعي بالكائن كجزء لا يتجزأ من كل حي ومتصل.
صياغة مقولة ديكارت إلى: "أنا متصل بالإنترنت إذاً أنا موجود"
تحتل المعارف الأصلانية مكانة مركزية في رؤية فيراندو، فهي تستند إليها في حديثها عن العلاقات المتداخلة وفاعلية الكائنات غير البشرية والمسؤولية البيئية. ذلك أن الكيانات الطبيعية كالأشجار والأنهار والحيوانات، وحتى الصخور، تُعد في المعارف الأصلانية كائنات حيّة وفاعلة، لا مجرد أشياء جامدة. تستفيد فيرّاندو من هذا التصوّر لتقويض الفصل الديكارتي بين الذات والموضوع، وبين الإنسان والطبيعة، الذي لا يزال مهيمناً في الفكر الغربي. تنظر إلى الكائنات غير البشرية بوصفها ذواتاً ذات كرامة وقيمة، وبهذا تقدّم نموذجاً أكثر شمولية وأخلاقية للوجود، يعدّه الكثيرون ضرورياً لمستقبل عادل ومستدام على كوكب الأرض. كما تتحدّى الفيلسوفة فكرة أن المعرفة مجرد معطى تجريدي منفصل عن الذات، وتنظر إليها في هذا السياق بوصفها متأصلة في علاقة الإنسان بالأرض والمجتمع والأسلاف والكون.
لا يقتصر كتاب فيرّاندو على طرح مجرد نقد فلسفي نظري، بل يشكّل دعوة حقيقية للتحوّل العملي، ويحثّ القرّاء على عدم الاكتفاء بالتفكير بشكل مختلف، بل أن يعيشوا بشكل مختلف، وأن يجسّدوا مبادئ ما بعد الإنسانية في حياتهم اليومية من طريق التأمل والاستهلاك الأخلاقي واحترام الكائنات الأخرى ورعاية كوكب الأرض.
بجمعها بين النقد الغربي والروحانية الشرقية والحكمة الأصلانية، تقدم المفكرة الإيطالية نموذجاً جديداً للوجود الإنساني لا يحنّ إلى الماضي، ولا يغرق في اليوتوبيا، بل يتجذر في واقع كوني متغيّر ومعقد. إنّ رؤيتها لما بعد الإنسانية لا تقوم على التخلي عن الإنسان، بل على توسيع مفهوم الإنسانية ليشمل علاقتنا العميقة بكل ما هو حي من الكائنات الحية إلى الذكاء الاصطناعي، وصولاً إلى العناصر الطبيعية والطاقة الكونية.
بهذا التصوّر، لا تعيد فيرّاندو تعريف معنى أن نكون بشراً في القرن الحادي والعشرين فحسب، بل تعيد أيضاً تعريف معنى الحياة والمسؤولية واليقظة في زمن يتحوّل فيه العالم من حولنا بوتيرة غير مسبوقة.
* شاعر ومترجم سوري مقيم في الولايات المتحدة