استمع إلى الملخص
- في كتابه "الذكاء الاصطناعي قتلني"، يناقش فرنسوا راستيي تأثير الذكاء الاصطناعي على الإنسانية، مشيرًا إلى "القطيعة الأنثروبولوجية" التي أحدثها، ويؤكد على تغيير جذري في عادات البشر.
- يدعو راستيي إلى تحكم أفضل في تطورات الذكاء الاصطناعي، محذرًا من تسليم القيادة للآلة، ويقترح إنشاء مرصد لمتابعة تأثيراته في العالم العربي.
انعقد في باريس، أخيراً، ملتقى هامّ مدارُه الذكاء الاصطناعي، أُعلِن من خلاله عن تخصيص عشرات المليارات لتعزيز هذا القطاع ودعمه. وقد أسفر هذه الملتقى عن اتّفاق زعماء العالم وأثريائه على إنشاء مراكز جديدة للذكاء في إجابة أولية على إطلاق البرنامج الصيني "ديبسيك"، ثم على احتكار الولايات المتحدة لهذه الأدوات.
وتشير هذه الحيوية إلى توتّر "إنسان ما بعد الحداثة" أمام الذكاء الاصطناعي الذي اجتاح كلّ قطاعات المعرفة الذهنية والعملية دون أن يكون مستعدّاً لمثل هذه الآثار المُتسارعة ولا لنتائجها الكارثية التي تركته شبه عاجز. ولذلك، سعى إلى نقد الاستخدام الشامل للذكاء الاصطناعي الذي طاول جوهر الإنسان وماهيته الأعمق: العقل. إلا أنّ هذا النقد تسارع في كلّ الاتجاهات ووظف حججاً هجينة صارت من الكثرة بحيث تستدعي موقفاً نقدياً تجاهها.
وآخر من تصدّى لهذه المسألة عالم اللسانيات الفرنسي فرنسوا راستيي، في كتاب له صدر حديثاً، بعنوان: "الذكاء الاصطناعي قتلني". بدأت قصة هذه المحاولة التأمُّلية حينما تلقّى الكاتب رسائل تعزية من أصدقائه عقب انتشار شائعة وفاته، مؤَكَّدة عبر العديد من صيغ الذكاء الاصطناعي والتي أضافت أنها اعتمدت مصادر موثوقة، رغم تقديمها تواريخ متضاربة لهذه الوفاة، ربّما بسبب ترابط خوارزميات خفيّة، منها إدارة الرجل لـ"مخبر دي سوسير" في باريس.
لا يتبنَّى مقولة "نهاية الإنسان" وذكاءه لصالح الآلة
وقد يُشير العنوان إلى قضية عمر حدّاد الذي اتُّهم ظلماً بقتل امرأة كان يعمل بستانياً لديها، بسبب جملة كُتبت على جدار مسرح الجريمة: "عُمر قتلني"، لكنها احتوت على خطأ إملائي فادح. ولعلّ في ذلك إشارة إلى أنّ الذكاء الاصطناعي يُمكن أن "يقتل" أيضاً من خلال الأخطاء التقنية التي يرتكبها. وقد يستدعي العنوان نظرية رولان بارت "موت المؤلّف"، والتي تدعو إلى عدم التقيّد بالسيرة التاريخية للكاتب والتركيز على النَّصّ ذاته لتحليله بدقة.
ومن خلال هذه المرجعيات الضمنية، يُؤكّد عالم اللسانيات المخضرم أنّ الذكاء الاصطناعي غذّى الخطاب العامّ حتى أصبح منقسماً بين مؤيّدين ومعارضين تباينت حولهم الآراء. كما يُشير إلى ما يُسمّيه "القطيعة الأنثروبولوجية" التي أحدثها، إذ غيّر مفهوم الإنسانية ذاته بعدما امتدّ تأثيره إلى جميع مجالات النشاط البشري من الفنون والعلوم إلى المشاعر وسائر العلاقات الاجتماعية.
في المقابل، يسخر المؤلّف من فكرة "موت" الذكاء الطبيعي مبيّناً أنّ الذكاء الاصطناعي لم يُلغِ دور الإنسان مع أنه أصبح واقعاً فرض نفسه وأحدث تغييراً جذرياً في عادات البشر وطُرق تفكيرهم وتعبيرهم وتصويرهم للكينونة. وعدَّدَ راستيي المجالات التي لا يزال الذكاء الطبيعي يتفوّق فيها على قرينه وشبيهه الرقمي، مثل الإبداع والتحقيق والتصحيح والتمييز، أي الأنشطة المرتبطة بعمليات الوعي الأكثر عمقاً في مسار المعرفة، بما تتطلّبه من تشوّف الكائن الإنساني إلى الحقيقة التي لا يُمكن أن تذوب في الزيف والتصنّع. فلا يُمكن لأي تقنية، مهما بلغت دقّتها، أن تستبدل دور الوعي وما تصاحبه من كفاءات تعبيرية ووجدانية.
وبشيء من السخرية، انبرى الكاتب يحلِّل سبب هذه الأخطاء القاتلة مُركّزاً على التحوّلات التي طرأت على الإنسان الحديث بسبب علاقته مع الحاسوب ثم مع الذكاء الاصطناعي، وهو مؤنث في اللسان الفرنسي يُرمز إليه باختصار "IA"، ما يعطي الانطباع بأننا نحاور امرأة تمتلك ليس فقط الأجوبة المعرفية الشاملة، وإنما تمدُّنا أيضاً بالعواطف والمشاعر الفيّاضة ولا سيما لمن يشعر بنقصٍ وجداني في حياته الفعلية.
يُضيء التحوّلات الجذرية التي فرضها على كينونتنا
قسَّم راستيي كتابه هذا إلى مقدّمة وخمسة فصول وخُلاصة خصَّصها جميعاً للظروف التي أوصلتنا إلى الوضع الحالي ثم للتدليل على استحالة موت المؤلّف، وعَطف على تحليل آثار التعايش مع الذكاء منذ الطفولة وضمن النسيج الاجتماعي، وختم بفصل حول التوليد الرقمي المُهدِّد لوجودنا، ثم لخصائص العالم الجديد الذي بتنا نعيش فيه إثر سيطرة هذه الخوارزميات على كل حقول حياتنا الإدراكية والعاطفية.
وهكذا، لم يركّز راستيي تعامُله مع برمجيات توليد الإجابات والنصوص والصور على فكرة التحدّي بطرح أسئلة مُبهمة تظهر عجزه عن إيجاد جواب مُقنع لها، ثم الاكتفاء بالقول إنها "خاطئة" تقرب إلى الهلوسة، والاستنتاج أن هذا الذكاء لا يمكن له أن يعوّض العقل البشري وطاقاته التحليلية، إذ لا يخفى ما في هذا التعامل من سذاجة.
كما لم يتبنَّ راستيي مقولة "نهاية الإنسان" وذكاءه في ما يشبه الخطاب الأبوكاليبتي، ولا ندّد بما ستؤول إليه قطاعات كاملة من النشاط الإنساني كالصحّة والتعليم والفنّ وحتى الحروب إذا ما وكلنا تدبيرها إلى البرمجيات الرقمية تفعل فيها ما تشاء. عِوَض ذلك، أطلق راستيي "صيحةَ ضمير" لينبه دوائر الحكم والمؤسسات المعرفية والشركات الإعلامية حتى تتحكم في تطورات الذكاء الاصطناعي بعدما اعتبره الرئيس الأميركي السابق بايدن: "أشدّ من الخطر النووي، فلا أحد يُمكنه السيطرة عليه"، صيحة تحذر البشرية من تسليم مقادتها لآلة قد تقودها نحو المجهول.
فهذا الكتاب إذن محاولة تأملية ساخرة تدين هيمنة الذكاء الاصطناعي على قطاعات حياتنا جملة، إلا أن الكاتب لم ينخرط في الجدل السطحي بين مناصري الذكاء الاصطناعي ومعارضيه، وإنما اكتفى بوصف التحوّلات الجذرية التي طاولت المعرفة والفن والوجدان، أي الكينونة البشرية في أخصِّ خصائصها وماهيتها، بما هي وجود حرّ مسؤول وإبداعي، لكنه بات يرى سماته الجوهرية هذه تتلاشى الواحدة تلو الأُخرى بسبب الكفاءات اللا-متناهية لهذا العقل الآلي.
عالمُنا العربي معنيٌّ بهذه الظاهرة التي باتت تؤثّر في أنشطة التعليم والترجمة والبحث والتواصل والحَوْكمة والطبّ وغيرها، وهو ما يستدعي مواجهة تحدّياتها مُسبقاً وبوعي بدلاً من تجاهلها أو التعامل معها بانتقائية، وكأنّها "جائحة لا تصيب إلا الآخرين". كما أنه معنيّ بصياغة خطاب نقدي جدّي يُحيط بتداعيات هذه الظاهرة في مجتمعاتنا ويستنطق أبعادها ويسبر انعكاساتها الفعلية في كلّ مرحلة من مراحل تطوّرها.
وربّما يحسن بالمثقّفين العرب إنشاء مرصد أو لجنة لمتابعة هذه العواقب ودراستها على وقع التحوّلات الرقمية مع الاستعانة بكلّ الطاقات الفكرية لدينا من مهندسي الحوسبة وعلماء الاجتماع والنفس وإعلاميّين وحتى رجال الدِّين من أجل إعطاء صورة شاملة للتعامل مع هذه الأداة. فلا يكون نقدُنا له مجرّد حديث ضمن أحاديث عابرة ثم لا ننتبه إلّا وقد سَرق منّا هذا الذكاء مكوّنات الهوية الأعمق: الوعي والعبارة والإحساس.
الجدير بالذكر أن فرانسوا راستيي هو باحث متخصّص في علم الدلالات، ومدير أبحاث في "المركز الوطني للبحوث العلمية" في فرنسا، حيث عمل منذ عشر سنوات ضمن مختبر متخصص في الذكاء الاصطناعي. ألّف نحو عشرين كتاباً حول السيميائية وبناء المعنى، وقضايا التأويل واشتغال العلامات، ويدير حالياً مختبراً في هذا المجال. ويُعدّ من أبرز علماء اللسانيات المعاصرين، الذين ساهموا في تحليل اللغات والثقافات برؤية شمولية.
* كاتب وأكاديمي تونسي مقيم في باريس