فاطمة مرتضى في "حياة متخيّلة".. الجسد هو الأصل

26 يناير 2025
من المعرض
+ الخط -

استمع إلى الملخص

اظهر الملخص
- تنوع وتكامل اللوحات: معرض "حياة متخيّلة" لفاطمة مرتضى في "LT gallery" ببيروت يضم لوحات بالأبيض والأسود تتسم بتنوعها وتكاملها، حيث تحمل كل لوحة رسالة خاصة، مما يخلق سردية شاملة رغم اختلافها الظاهري.

- الجسد كعنصر مركزي: الجسد هو المحور في لوحات مرتضى، حيث يُعاد تأليفه بطرق مبتكرة، مما يحوله إلى رسالة فنية فريدة تجمع بين البوب والرموز الشعبية.

- استعارات وزخرفة فنية: تستخدم اللوحات استعارات من قصص الأطفال والصور المتحركة، مما يضفي طابعًا زخرفيًا يشبه الأرابيسك، لتصبح تجربة فنية غنية ومتعددة الأبعاد.

معرض فاطمة مرتضى في "LT gallery" بـ بيروت لا يحمل عبثاً عنوان "حياة متخيّلة"؛ فالواضح أنّ القاعة التي ضمّت عشرات اللوحات، بالأبيض والأسود، تنسج فيما بينها قربى أكيدة. ثمة ما يُشعر الناظر بأنّ المعرض، من لوحة إلى لوحة، يملك ما يمكن اعتباره لوناً من الوحدة، رغم أنّنا لسنا أمام حكاية جامعة، ولسنا كذلك أمام الموضوع نفسه.

نفهم فوراً أنّ الفنّانة أرادت من كلّ لوحة أن تحمل رسالة خاصّة، أن يشهد المعرض (16 - 31 كانون الثاني/ يناير الجاري) لدرجة واضحة من التعدُّد، بل يمكننا القول إنّ الخلاف، بين لوحة وأُخرى، يكاد يكون مقصوداً. ثمة إرادة هنا في أن يكون لكل لوحة تجربتها وخصوصيتها وكلمتها أيضاً، بل إنّ هذا الاختلاف يبدو هدفاً، بل غرضاً متوخّى ومصنوعاً بعناية واضحة. إلّا أنّنا، مع ذلك، نملك الإحساس بأنّ بين اللوحات ما يمكن أن يتخطّى اللوحة الواحدة، إلى درجة من التواصل، بل تقاسم ما يمكن أن يكون موضوعاً كلياً، أي إنّ في اللوحة قدراً من معنى يتطاول إلى غيرها، بل معنى هو شمول للمعرض كلّه، ونوع من سردية تجمع بين اللوحات.

فاطمة مرتضى - القسمم الثقافي
من المعرض

ليس هنا الأسلوب ذاته فحسب، أو الإيعاز والإيحاء ذاتهما، إنّه شيءٌ يَخرج من اللوحة أو يُخرجها إليه، شيء يكاد يكون حركات تتعامل على الإيحاء ذاته، أو معنى أوسع من اللوحة، بل هو ما يصدر عن اجتماع اللوحات، ما يمكن أن يكون "وزناً" واحداً، إذا جاز أن يستعير من الشعر. ليس فقط وزناً، إنّه عالم، إنّه ما يتخطّى الأسلوب، لكنّه يصنع من ذلك أسلوباً عامّاً. إنّه شهادة، واجتماع الشهادات وتكاملها وتواصلها، ما يجعل من المعرض مؤلّفاً متتابعاً، مؤلّفاً مشتركاً.

هناك ما يُضمر في المعرض كلّه هذا الإيقاع الواحد، يُضمر ما يمكن أن نجد فيه نفساً ملحمياً. الاختلاف والخصوصية هما وجه آخر للاجتماع، والنظم المشترك، والمعنى الشامل. نحن أمام المعرض بإحساس أنّنا ندخل في سردية واحدة، وأنّ اللعبة هي في هذا التمايز القادر، مع ذلك، على أن يؤلّف ما نسمع منه الصوت ذاته، واللحظة ذاتها، والنبرة ذاتها، والإرسال ذاته.

تتّسع جسدانية اللوحة، بل تغدو حيّة وضاحكة وتهكّمية وشعبية

ندخل في المعرض لنكتشف أنّ الأسود والأبيض هُما، هنا، وسيلة إلى شحن كلّ لوحة برسالتها الخاصّة، بل في إيجاد إيقاع قادر على أن يُعبّر بطريقة لا نعود نسأل معها عن ألوان، بل نجد أنّ الأسود والأبيض لا يمنعان اللوحة من الخصوصية، بل لا يمنعانها من أن تحمل في داخلها لونها الخاصّ أو ألوانها. هذا ما نجده في عمل اللوحات على تشبيك خاصّ، على تأليف داخلي، على تعقيد وبناء لذاتهما وفحواهما وإضمارهما.

المعرض لا نجادل في كونه، في كلّ لوحة، يعرض جسداً، ليس الجسد نفسه، ليس التشكيل الجسدي ذاته. في كلّ لوحة نرى هذا الجسد على نحو خاصّ، نجده منعقداً بطريقته، نجده في تأليف يخصّه. تأليف لا يعود معه في وضعية محدّدة، بل لا يعود معه في أيّ وضعية. مع ذلك هو الجسد بلا ريب، الجسد الذي في تأليفه وتعدّيه وتعقيده، هو الجسد بلا ريب، بل إن قصده الأوّل هو أن يلعب هذه الجسدية، أو لنقُل أن يعيد تأليفها. له موضوعه بالتأكيد، لكن عمله هو، بالدرجة الأُولى، خلق نوع من جسدانية، تغدو معها اللقطة أكثر جسدية، بل إنّ في اللعب وفي التعقيد وفي التأليف ما يجعلها ابتكاراً لجسدانية خاصّة بها.

من معرض فاطمة مرتضى - القسم الثقافي
فاطمة مرتضى في معرضها "حياة متخيّلة"

اللعب هنا هو في هذا التأليف المتجدّد لجسدانية تجعل من الجسد فوق الموضوع، تجعل منه أسلوباً وإيحاءً وتركيباً… فاطمة لا تُصوّر فقط هنا جسداً، إنّها تُحوّله إلى رسالة خاصّة، إلى طريقة وأسلوب. اللوحة هنا تستعير مفردات جسدية، بل تؤلّف من الجسد، وعلى الجسد، ما يبدو معه استعارة كبرى، ما يحوّله إلى لعبة خاصّة وتأليف ومدخل وبلاغة ومعنى أوّلي وأصلي، بحيث نشعر أنّ الجسد هنا هو الأصل، بل نشعر أنّ ما تفعله فاطمة هو نصب الجسد. لوحاتها تبدو لذلك أنصاباً جسدية. إنّها هكذا قريبة من النحت، تبدو كروكيات لمنحوتات، الجسد صلبها ووحلها.

الجسد هنا هو التكوين الأوّلي، هو البدء والأصل، لكنّه أيضاً الدائرة الأُولى التي تستقطب ما يجمع بين البوب، والصور المتحرّكة، وبين الطفولة والأشكال الطفولية. هناك في اللوحة موازٍ شعبي، مفردات من الصور المتحرّكة، ومن عناوين الأغاني، والمأثور الشعبي.

هكذا تتّسع جسدانية اللوحة، بل تغدو حيّة وضاحكة وتهكّمية وشعبية. أي إنّ لوحة فاطمة مرتضى تغدو هكذا ذات أكثر من لغة، أكثر من مستوى وأكثر من رسالة. إنّ النحت الجسداني يشمل عالماً بكامله من فوق إلى تحت، ومن الأوّل والأصلي إلى الأخير والحضيض. الجسدي المنصوب يغدو هكذا مأثوراً شعبياً وطفولياً وحكاية دارجة.

يمكننا أن نتذكّر هنا ليس فقط الصور المتحرّكة، بل أيضاً هذا الجمع بين الرسم والخياطة. في حين لا نجد لوناً مباشراً نجد في الحياكة الخطّية لأجزاء من اللوحة ما يعوّض اللون، بل يبني لوناً خاصّاً. ثم إنّ استعارات قصص الأطفال والصور المتحرّكة تقلب اللوحة رأساً على عقب. إنّنا هكذا أمام زخرفة، لون من أرابيسك أداته الأكفّ التي تبثّ أصابعها في كلّ مكان، تتغلغل بخطوطها في ما يبدو زخرفة خاصّة.

هكذا تذهب لوحة فاطمة مرتضى في أكثر من مستوى وأكثر من اتجاه. إنّها حُلم لوحة جامعة، لوحة من أكثر من استعارة، أكثر من أسلوب، وأكثر من لحظة.


* شاعر وروائي من لبنان

موقف
التحديثات الحية
المساهمون