عن لحظة الخروج السوري من النفق البعثي

29 ديسمبر 2024
من احتفالات السوريّين بسقوط نظام الأسد، "ساحة الأمويّين" في دمشق، 27 ديسمبر 2024 (Getty)
+ الخط -

استمع إلى الملخص

اظهر الملخص
- عانى السوريون من قمع وحكم قاسي تحت نظام البعث وحافظ الأسد، حيث تم تدمير فرص التطور وتحويل مقدرات البلاد إلى الخارج، مما أدى إلى حالة من اليأس وانعدام الأمل.

- شهدت سوريا أحداث عنف مثل مذبحة حماه وسجن تدمر، مما أثار تساؤلات حول مستقبل البلاد بعد سقوط النظام، مع الحاجة إلى تشكيل مؤسسات جديدة وتحقيق تحول سياسي شامل.

- تواجه سوريا تحديات مستقبلية تتعلق بسيادة القانون والاستقرار، مع اهتمام دولي بإعادة الإعمار وتغيير ديناميكيات القوة في الشرق الأوسط بعد سقوط نظام الأسد.

ما فعله البعث وحافظ الأسد وحاشيته هو تدمير منهجيٍّ لأيّة إمكانية أن تكون هذه القطعة من الجغرافيا حضارية ومنارةً تطلُّ على البحر الأبيض المتوسّط. فقد جرت إدارة سورية بعقلية أمنيّة لا تعرف الرحمة، تستند بشكلٍ قطعيٍّ إلى المؤامرة وسياسة الانتقام والملاحقة والاقتصاص من أيّة وجهة نظر تتعارض مع سياسة النظام، وإلى رفع شعارات مُستهلكة ولا عقلانية عفا عليها الزمن، عاش معها السوريون ليل نهار في الشوارع والإذاعة والتلفزيون والمدارس والجامعات وكلّ مناحي الحياة، وتحوّلوا عبرها إلى رعية لا حول لها ولا قوّة بمواجهة عسف المخابرات، يريدون الستر وكفاف يومهم. ومن استطاع النجاة ذهب إمّا إلى السجن أو جهات الأرض الواسعة. فكانت حفنة التراب والخبز والضوء عطايا ومكرمة من المكرمات.

انحشرت الحياة السورية كلّها في النفق البعثي، وأرْخت العتمة سدولها على كلّ شيء، وتجمّد الزمن هناك من اللحظة التي جرى فيها ركوب صهوة المدن والقرى، آخذاً إيّاها إلى اليباب والقحط وخطابات سمجة طويلة، على الشعب أن يحفظها ويردّدها في المنامات والكوابيس واليقظة، ومن ثمّ يلوّنها على الجدران والأبنية الحكومية مثل تعويذة وقدر لا فكاك منه. 
لبسَ السوريّون البدلة العسكرية طيلة هذه السنين، متسمّرين أمام شاشة التلفزيون صاغرين للملاحم البطولية التي تحدث على سطح كوكب المرّيخ، بينما غبارها اللفظي يُعكّر سهرات المساء الكئيبة، ومقدّرات البلاد الهائلة ستذهب إلى حسابات العائلة المصرفية في أوروبا وآسيا وأميركا، من دون أن يجرؤ أيّ كان على مناقشة هذا الأمر.

كانت سورية نفقاً حقيقياً لا نهاية له، خارج التاريخ وخارج الزمان والمكان. مع الإحساس العدمي بألّا طوق نجاة ولا أمل أو حتّى بصيص ضوء يأتي ولو من خرم إبرة.

أصبح للملامح السورية لونٌ مختلف لم نألف رؤيته فيما مضى

عانى السوريون من الظلم ما يفوق الخيال، من الأساليب الوحشية وماكينات القمع متقنة الصنع، إلى الأسلوب الهوسي والمَرَضي لفنّ العقاب الجماعي. ما بقي في الذاكرة لا يمكن أن يُمحى: فترة الثمانينيات ومذبحة مدينة حماه، مذبحة سجن تدمر، والمسلخ البشري سجن صيدنايا، بفرعيه الأبيض والأحمر، فرع فلسطين، فرع المنطقة، فرع الخطيب... إلى آخر السلسلة التي لا تنتهي من منظومة هذه العائلة التي أطبقت على الأنفاس.

رافق السجن النهارات والليالي هناك، والمقابر العشوائية الجماعية جاهزة وتحت الطلب أينما ذهب السوريون. لم تفارقهم متلازمة الخوف، حتى وهُم بعيدون آلاف الأميال عن حجارة بيوتهم وأهلهم وذويهم.

رافق اسم مدينة تدمر التاريخية سجنها الصحراوي الشهير، أسوأ سجن في العالم. كان مجرّد لفظ الكلمة كفيلاً بأن يرتبك الكائن مرتجفاً ومذعوراً، فبين تلك الأعمدة والصروح دُفن الكثيرون، وهُم على قيد الحياة، من دون أدنى رأفة. كان بإمكان رجُلٍ واحد أن يُحوّل شعباً إلى جالية مرمية في أصقاع العالم.

سقطت الأنظمة في تونس ومصر واليمن وليبيا في المرحلة الأولى بين 2011 و2013. في المرحلة الثانية بين عامي 2019 و2020 سقط نظاما الجزائر والسودان، مع وجود تحدّيات كبيرة للنظام في كلٍّ من العراق ولبنان.

في لبنان، الدولة في حالة سقوط اقتصادي وسياسي حرٍّ على مدى السنوات الخمس الماضية. والسرعة الخاطفة لسقوط نظام الأسد لم تكن أقلّ من مذهلة، ولم يكن أحد يعلم أنّ هذ النظام الذي بناه الأب كان في الواقع حطاماً هائلاً. هذا السقوط أثار أيضاً مشهداً من الذكريات، وسيعني حتماً انقراض الجمهورية الاشتراكية التي تحوّلت إلى نظام حكم الفرد أو الأسرة الواحدة على شكل زُمر إجرامية مع شهية كبيرة للقتل والتعذيب والاغتصاب والتجويع والإرهاب والسرقة ظلّت قوية وماثلة.

تحتاج سورية إلى تشكيل مؤسّسات جديدة كجزء من عملية الانتقال وضمان أن تكون هذه المؤسّسات شاملة وتستوعب أطياف وطاقات المجتمع، وإلى كميات هائلة من المساعدات الإنسانية العاجلة. وفي هذا كلّه يواجه السوريون الآن مستقبلاً مليئاً بالتحدّيات منها: الحاجة إلى سيادة القانون، وضرورة تحقيق تحوّل سياسي يشارك فيه السوريون كافّة على اختلاف مشاربهم وانتماءاتهم. 

الاستقرار كذلك مهمٌّ بشكل حاسم للحكومات الأوروبية في ظلّ الضغوط الانتخابية. إذ بدأت في تشكيل خطّة أو عملية سريعة لإعادة اللاجئين السوريّين، ووتيرة هذه العودة ستتشكّل وفقاً للذي يمكن أن يتحقّق الآن. كما أعلنت هذه الحكومات أنّها لن تقبلهم كطالبي لجوء بعد رحيل الأسد. نعرف أنّ أزمة الهجرة هي المحرّك الأكثر أهمية لعدم الاستقرار في السياسة الداخلية الأوروبية. المحرّك الثاني هو أزمة الطاقة، وهذه الصناعة مدفوعة بارتفاعات هائلة في الأسعار منذ بداية حرب أوكرانيا، مع تطلّع أوروبا إلى طلاق طويل الأمد مع الطاقة الروسية.

تزداد أيضاً جاذبية تطوير خطوط الأنابيب من الخليج إلى تركيا، لكن مثل هذه المشاريع يعتمد حتماً على الاستقرار. وهناك بالفعل تقارير تفيد بأنَّ بعض اللاجئين يحاولون العودة، ووفقاً لوكالة الأمم المتّحدة، فإنه قد يعود أكثر من مليون لاجئ سوري في الأشهر الستّة الأولى من سنة 2025.

نهاية نظام الطاغية رمزٌ لانهيار النظام القديم الذي نال دعماً متوازياً من روسيا وإيران، ومن معانيه أيضاً نهاية النفوذ الروسي في سورية، على غرار سقوط الشيوعية في أوروبا الشرقية سنة 1989. بسقوط جدار برلين السوري سيتمّ بالتأكيد إعادة تعريف ديناميكيات القوّة في "الشرق الأوسط".

وكثير من المناقشات تدور اليوم بين متفائل ومتشائم، حول ما إذا كانت سورية ستظلّ دولة واحدة أو أنّها ستنقسم إلى دويلات تكون مصدراً لعدم الاستقرار الإقليمي.

مرّت أيضاً دول الخليج وشمال أفريقيا بسنوات عصيبة. والآن مع سيادة الاحتياجات الاقتصادية قد تشارك في برنامج إعادة الإعمار والتواصل الإقليمي، وجعل بلاد الشام جزءاً من طريق تجاري متعدّد الوسائط وموازٍ للطرق البحرية عبر البحر الأحمر وأفريقيا نفسها، ومن آسيا أيضاً عبر الخليج إلى أوروبا.

نحن على أعتاب تحوّل كبير في المشهد الجيوسياسي منذ الثورة الإيرانية سنة 1979. إنّه لمشهد مذهل أن ترى السوريّين وقد بدأوا في معالجة ما يعنيه الخروج من تحت نير دكتاتورية وحشية لأكثر من خمسين عاماً.

تعامَل النظام بشكل لا يقبل الشكّ على أنّ المجتمع السوري هو عدوّ محتمل ودائمٌ للدولة، فورثت الثقافة المجتمعية السورية حملاً لم يكن ثقيلاً فحسب، بل على درجة من الألم والقهر لا يمكن تصوّرها طيلة حُكم الأب والابن. ولم يكفِ الحذر أن يتلبّس كلَّ مناحي الحياة فقط، بل الهلع وفقدان الثقة اللذين كانا يسكنان تحت اللحم والعظم.

في ساحة الأمويّين تلاشت الصدمة الجماعية لشكل الحياة السابقة، وأصبح للملامح السورية الآن لون مختلف من البهجة والأمل والتعبير لم نألف أن نراه فيما مضى.


* كاتب سوري مقيم في الولايات المتّحدة

المساهمون