عمران قطر بعد كأس العالم (4/ 5): مدينة وحدائق مستدامة

عمران قطر بعد كأس العالم (4/ 5): مدينة وحدائق مستدامة

16 نوفمبر 2022
من حدائق الدوحة
+ الخط -

ماذا سيفعل القادمون إلى قطر لمشاهدة مباريات كأس العالم، وماذا سيفعل أهل البلد بعد مغادرتهم؟ نقدّم في هذا الطرح السياسات والاستراتيجيات الجوهرية التي رُصدت في السياق القطري، والتي تهدف إلى صياغة عمرانية ومعمارية مستقبلية، مرتكزة على مجموعة من المفاهيم المندمجة؛ ومنها: الإنسان والبيئة والاستدامة، والمعرفة، والعدل، والتعدّدية. يرتكز المفهوم الجديد في فلسفة استضافة المُدن للأحداث العالمية على مبدأ أن الحدث يجب أن يخدُم المدينة، وليس أن المدينة هي المُطالَبة بأن تخدم الحدث، ثم تعاني بعد انتهائه. ويصبح التساؤل كيف نعدّ المدينة لأن تكون تحت الأضواء العالمية؟ وكيف نستفيد من تسليط الأضواء عليها، لخلق مستقبلٍ أفضل وليس واقعاً محصوراً بمدّة الحدث؟
 
تبرز تجربة مدينة لندن أثناء تنظيم المدينة الألعاب الأوليمبية عام 2012، إذ اعتمدت حَمْلة المدينة على تقديم شخصية للعاصمة الإنكليزية متعدّدة الأبعاد والمستويات. قُدّمت لندن على أنها المدينة التي تحتضن الموسيقى والرياضة، والفنّ والإبداع والمعرفة والتواصل الإنساني البعيد عن أي نزعات عرقية أو أيديولوجية. أدّت هذه الحملة، وتبعاً لتقديرات الخبراء، إلى خلق انتفاضة سياحية غير مسبوقة في تاريخ المدينة والدولة. 


من التجميل إلى خلق أنماط الحياة

وجود الفراغات العامة الترفيهية والحدائقية في نسيج المدينة الخليجية مهمٌّ وفارق؛ لأنها مدينةٌ لم تتعامل في تاريخها التخطيطي مع الفراغات الخضراء كمكوّن جوهري في التركيبة التخطيطية والعمرانية للمدينة. لقد كانت مدنُ الخليج - ومنها الدوحة - مدناً جافة، وباستثناء الواحات فالمدن نطاقات عمرانية مُبعثَرة في سياق صحراوي أو على حافة المياه. ثم شهدت المدن المعاصرة في العقد الأخير، وخاصة مع تبلور مفاهيم الاستدامة والمدن الخضراء، توجّهاً نحو إعادة صياغة مفهوم تنسيق المواقع وتجميل المدن. لم يعد مفهوم تنسيق المواقع وتخضير وتجميل المدن مقتصراً على إضافة بعض اللمسات التجميلية التي تضيف إلى القيمة البصرية للمدينة. 

أصبح الطابع الجمالي الشمولي المُنعكس في تصميمات الشوارع والميادين وتنسيق المواقع، وواجهات وألوان المباني، وعلاقته بحياة السكّان والزوّار وأنشطتهم ضرورة جوهرية في تخطيط المدن. ولكن التحوّل الذي حدث في السنوات العشر الأخيرة يُبرهن أنّ الأبعاد الجمالية الحقيقية في المدينة هي التي تؤدّي إلى تحسين نوعية الحياة فيها. هذه الأبعاد التي تجعل المدينة مشجِّعة على الحياة والسَّكن والعمل والإنتاج، بل الإبداع والابتكار. وحيثُ تحوّلت المدينة إلى مجموعاتٍ من الفراغات الخضراء المُفعمة بالحياة، فهي تُساعد طبقاتٍ وقطاعاتٍ مختلفة من مجتمع المدينة على التواصل والتفاعل. لقد أصبحت شوارع المدينة المظلّلة بالأشجار والمُزيّنة بالورود شرايينَ حركة المُشاة، ومسطّحات لامتدادات المطاعم الصغيرة والمقاهي التي تحقّق لأفراد المجتمع فرصةَ التمتُّع بمدينتهم، وأن يروا من حولهم وأن يراهم الآخرون، كما أصبحت ساحاتٍ لعرض الفنون وإبداعات النحّاتين والتشكيليين. 

تشكّل حدائق قطر بُنية تحتية خضراء وتلطّف شرط المناخ

واحد من أهمّ جوانب الإنفاق في قطر هو تفعيل استراتيجية متكاملة لمواجهة تحدّيات العمران، وخاصة في العاصمة الدوحة، وصياغة توجّه متماسك نحو التعامل مع المدينة بوصفها كياناً متكاملاً. واحدٌ من أهم الأدلة على تلك التحدّيات تجلّى في عدم الاهتمام بقيمة الفراغات العامة، وأهميتها في الحياة العمرانية الإنسانية. إذ كانت الفراغات الخارجية في معظمها هي بقايا العملية التخطيطية، وليست فراغاتٍ مُصمّمة من أجل إسعاد أفراد المجتمع. كما تحوّلت الشوارع إلى شرايين مرورية أولوياتها تسيير حركة السيارات، دون أي صياغة فراغية أو عمرانية، أو إدماج استعمالات عامة تُنمّي العلاقة بين الإنسان والشارع. 

استُغلّت طاقة الاستعداد لاستضافة كأس العالم من أجل صياغة مرحلة تخطيطية جديدة، بدأت مع "مشروع الخطة العمرانية الشاملة للدولة". وصِيغت الأسئلة بوعي عن الطريقة الأنجع لتحويل الدوحة، وباقي مدن قطر، إلى مدن صديقة للإنسان، متماسكة، ومتضامة، يعيش فيها مجتمعٌ آمن وسعيد ومتواصل في إطار صحي ومستدام. وقد تبلور هذا التوجّه من خلال وجود استراتيجية كاملةٍ للفراغات المفتوحة، والمسطّحات الخضراء، تتكامل معها شبكة من الشوارع الخضراء، واستراتيجية لتوزيع الفنّ العام. 

نستعرض هنا أهم الحدائق العامة التي تُميّز النسيج العمراني للدوحة الكبرى، والتي مُوّلت وبُنيت في سياق استراتيجية الفضاءات العامة والخضراء في الدولة.


حديقة أسباير 

أكبر حديقة على مستوى الدولة، إذ تمتدّ على مساحة شاسعة تصل إلى 880 ألف متر مُربع، مما يمنح جميع مرتاديها خيارات ترفيهية متنوّعة لتعزيز أنماط الحياة الصحية. وتوفّر الحديقة فرصة رائعة لممارسة الرياضة وتعزيز أنماط الحياة الصحية من خلال مجموعة من الأنشطة الممتعة.


حديقة البدع 

من أهم نماذج الحدائق المجتمعية المُتكاملة، كانت تُعرف سابقاً بـ"الرميلة"، ولها إطلالة مباشرة على كورنيش المدينة، وهي واحدة من أقدم وأشهر حدائق المدينة. وتتميز الحديقة بوجودها في موقع مركزي في المدينة، وبواجهة ممتدّة تطلُّ على الخليج، مما يجعلها تمثّل فراغاً ترفيهياً مفتوحاً لكلّ أفراد المجتمع. ويركّز تصميمها على تعزيز عوامل أربعة هي: الطبيعة والثقافة والتاريخ والوظيفة.

يعزز التوجه البيئي في الدوحة من تواصل السكان وتفاعلهم

حديقة الفندق (الشيراتون)

تُحيط بأهم مَعلم معماري في تاريخ قطر الحديث، وهو "فندق الشيراتون"، حيث تُقدّم الحديقة تجربةً عن مفهوم الفراغ الأخضر المفتوح، كما تُعطي الأولوية الكاملة للإنسان على حساب السيارة، التي انتقلت إلى مستوى سفلي من المشروع بدلاً من احتلالها القديم لهذه البقعة. وتلعب الحديقة دور الفراغ العام المُرحِّب بالمجتمع، كما ترتبط المنطقة مباشرة بممشى الكورنيش المواجِه للخليج. كذلك ساهمت مكوّنات الحديقة، وخاصة العناصر المائية الرئيسية الخمسة والتشكيلات الأرضية متعدّدة المستويات النحتية المزروعة مع الأشجار والنخيل، في صياغة مناخٍ خاص حيث يمكن أن تصل درجة الحرارة في الحديقة إلى 10 درجات مئوية أقلّ من المناطق الأُخرى في المدينة. وهذا دليل آخر على أن البنية التحتية الخضراء، وظلال الأشجار والنخيل يمكن أن تُحسّن من القدرة على العيش واستدامة المدينة.


حديقة الأكسجين 

افتتحت في سياق المدينة التعليمية، وتحوّلت إلى مقصد مُجتمعي للسكّان في المناطق المُتاخمة للمدينة، وللكثير من المتطلّعين إلى الفراغات الحدائقية الهادئة المُحفّزة على الحياة الصحية. وتُتاح بها فراغات للتأمّل، والسكينة النفسية والذهنية. كما تحتوي على مجموعة واسعة من المرافق الرياضية، من بينها: مضمار للجري بطول 1600 متر، وممرّات مغطّاة للمشي، وحلبات للفروسية، ومسار للمشي طوله 7000 متر، وملاعب رياضية. وتنقسم الحديقة إلى متنزّهات ومناطق لممارسة الأنشطة الرياضية، والترفيهية والاجتماعية المختلفة، وقد بُنيت على ارتفاعات متفاوتة، مستفيدة من السمات الطبوغرافية الموجودة فيها؛ ممّا مكّن من إيجاد مصدّات لحماية الزوار من الرياح والأتربة. 

ليس تجميل المدن قيمة بصرية فقط، بل مرتبط بحياة السكان

حديقة القرآن النباتية

تقدّم هذه الحديقة مفهوماً جديداً في عالم الحدائق النباتية، إذ تجمع النباتات التي ورد ذكرها في القرآن الكريم وصحيح السنّة النبوية، والنباتات المحلّية في قطر. وتهدف إلى تعزيز ونشر المعرفة بهذه النباتات، والمصطلحات المرتبطة بها ومبادئ صيانتها والحفاظ عليها. وهي دعوة للتفكير والتأمّل في خلق الله من خلال الاهتمام بتعريف الجمهور المتنوّع من المسلمين وغير المسلمين بأنواع النباتات والمصطلحات النباتية، وإبراز مبادئ الشريعة الإسلامية السمحاء الرامية لصون التنوّع النباتي. وإلى جانب البُعد الديني، ترمي الحديقة أيضاً إلى تسليط الضوء على أهمّية صون الموارد النباتية، وكيفية المحافظة على المصادر الطبيعية والبيئية، وإبراز تعاليم الشريعة الإسلامية التي تدعو إلى حماية الموارد البيئية، والحفاظ عليها من أجل الأجيال الحالية وكذلك أجيال المستقبل. ومثلها "حديقة المتحف الإسلامي" التي تربط بين الفضاء الحدائقي والمبنى الثقافي المتحفي.

نجحت الخطة العمرانية في قطر باستغلال الأموال المخصّصة لاستضافة كأس العالم، وتمكّنت من خلق مجموعة فضاءات وفراغات عامة مفتوحة وشوارع خضراء مُشجِّعة على المشي. كما صنعت تسلسلاً في الحدائق من مستوى الفريج والحي إلى مستوى الحديقة الوطنية. عند هذا الحدّ تتحوّل المدينة إلى حديقة، بل إلى نسق مُتاح للجميع سيظلّ مُمتدّاً بعد انتهاء التظاهرة، وهذا هو النجاح.


* معماري وأكاديمي من مصر

المساهمون