عزّة شرارة بيضون.. في وصف مجتمعٍ لا يرى بعُيون النساء

عزّة شرارة بيضون.. في وصف مجتمعٍ لا يرى بعُيون النساء

13 يوليو 2021
جزء من عمل بلا عنوان لصفوان داحول (سورية)، أكريليك وورق مذهّب على لوح خشبي، 1993
+ الخط -

أبحاثٌ تَحار في إنماء نِسبتها لجِدّتها ونفاذِها. وترى، بعد التأمّل، أنها تَنتمي إلى حقل معرفيّ جديد: علم القانون المجتمعيّ الذي يُعنى بدراسة العلاقات المُنعقدة بين القوانين والمخالفات في بُعدها السوسيولوجيّ، باعتماد الأبحاث الميدانيّة التي تستقصي الجذور الاجتماعيّة للقُضاة والجُناة وأجناسهم وطوائفهم وعلاقة ذلك بنصوص القانون وتأويلها وتطبيقها. وهو ما خاضت فيه الباحثة عَزّة شرارة بَيضون، في كتابها الجديد: "بِعيون النساء: شؤون اللبنانيات وقضاياهن"، الصادر أخيرًا عن "مؤسّسة دار الجديد" اللبنانيّة.

يَنقسم الكتاب إلى أربعة مباحثَ مترابطة: يُعنى الأوّل منها بمظاهر العنف ضدّ النساء في الأُسرة وأمام القضاء، وفيه تستَعرض الكاتبة نتائجَ مقابلاتٍ مع مرتكبي هذه الآفة وضحاياها، بحثًا عن دلالاتها العميقة واستكشافًا لمظاهر الهيمنة الذكورية التي غالبًا ما تتّكئ على المرجعيّة الدينيّة، ثم تؤوّلها بحَسب الهوى. أمّا الفصل الثاني، فقد خُصّص للدراسات النّسوية وملامح المقاربة الجندرية وحدودِها، وكأنّه فَصلٌ يحفِر في الطرائق التي يعتمدها البحّاثة العَرَب لسبر أغوار هذا الحقل الذي كأنما يُسار فيه على البيض لحَساسيّته وامتزاج الذاتيّ فيه بالموضوعيّ، والهيمنةِ بالوصف، ضمن العلاقة الجدليّة بين المعرفة والسلطة.

ويهدفُ الفصلُ الموالي إلى استعادة شؤون النساء ضمن نسيج الحياة اليوميّة مثل نشاطهن على صفحات "فيسبوك"، والعمل المنزليّ، ليُختَم الكتابُ بِملحقٍ "خاصّ لا يخلو من العام"، لأنّه استعاد نصّ مقابلةٍ سبق وأن نُشرت في جريدة عربيّة، بعنوان: "لسْنا كارهاتٍ للرجال"، تناولت فيها المؤلّفة دواعي النضال النسوي، وليس ألصق من هذا النضال بِالشأن العربيّ العام، وفيه بيّنت أنّ المنافحة لا تنصبّ على الرجال، بل ضدّ نظام اجتماعيّ متخلّفٍ يقوم على الطائفيّة والعشائريّة والذكوريّة، كما عادت فيه إلى أهمّ العراقيل التي تحجز انبثاق مساواة كاملة بين الجنسَيْن وتجلّي آثار التمييز الجنسي ووظائفه الاجتماعيّة والنفسيّة.

بحثٌ جريء يتوسّل علوم القانون لرصد ظواهر العنف ضد النساء

وقد تخلّلت كلَّ فِقَر الكتاب إحالاتٌ على مفاهيم مَأتاها من العلوم الإنسانيّة والفلسفة والقانون وعلم النفس والتحليل الألسنيّ، ضمن تحوّلٍ في النموذج المعرفي، ودُرست من خلالها تأثير النّظام القضائيّ في المشاركين مع الاستفادة من تلك التطبيقات على عملية التشريع. فالعمل إذن زبدة ما توَصّلت إليه الباحثة، في العقود الماضية، من الأنظار والنتائج في قَضايا الحميميّة ونشأة التشريعات والتمثلات الاجتماعية التي يصوغها كلُّ جنس عن الآخر. كان الالتزام السياسيّ التقدميّ والنظر المعرفي مصدري هذه الأوراق. وأما ميدانها فيمتدّ على المجتمع اللبنانيّ بما فيه من سمات وخصوصياتٍ، إلا أنه قد يشمل كلّ المجتمعات العربيّة - الإسلاميّة، والتي ما تزال فيها الهيمنة الذكوريّة واضحة ووضعيّة المرأة مُزرية.

كما كان مفهوم "الجندر" حاضرًا يخترق المباحث ويغذّيها، لكن من دون أن يُسقَط عَليها، بما له من دلالات حافّة التصقَت به في مَنشأه الغربي. وَظّفته شرارة بيضون بما يمكن أن يُثريه ويطوّعه لدراسة المجتمعات العربية ولبنان خصوصًا. ومن بين الخطوط الناظمة لهذه الأعمال أيضا تناولٌ يقرب إلى الألسنية القانونيّة بما هي تحليل لغوي للخطاب القانوني المعنيّ بشؤون النساء وقضاياهن، ذلك أنّ مؤسسات الدولة (القضائيّة والدينيّة) تستند إلى كلامٍ، قوامه صورٌ ومفاهيم وعبارات، وهو حمّال لمواقف سلبية من المرأة، عاكس لنظرة المجتمع الإزرائية لها، وهو الذكوري في بنيته وحركيّته. فكان أن انصبّت جهود الباحثة على هذا الخطاب الذي يختفي تارةً ويظهر أخرى، لتواجِهَ المسكوت عنه فيه وتُعَرّي مضامينه البائسة، مبيّنةً عن علاقاتها بالرؤية الدينية والصحافيّة والقضائيّة، ممّا يجعل هذه المباحث تحليلاً للتعددية الصوتية (polyphonie) التي تميّز الحديث عن المرأة في القانون وتوظّفه لصالحها أو على حسابها في جدلٍ لُغويّ - قانونيّ.

الصورة
غلاف بعيون النساء

وأمّا القضايا التي طرحتها عَزّة شرارة بيضون في هذا الكتاب فشديدة الحساسية، لاتّصالها بمجال الحَميميّ-الخاصّ، ولا سيّما في ارتباطه بالمقدّس والديني ثم بالقانونيّ. ومع ذلك، تقحّمت هذا الحقلَ المَلغوم بحكمةٍ وتَعقّل، بمعنى أنها لم تستسلم للخطاب النّسوي السّهل، الذي يُسقط مقولاتٍ مشتقة من مجتمعات أخرى (الغربية)، لها سرديّاتٌ عن تاريخها، مختلفة عمّا في تاريخنا. كما أنها لم تُذعن لمنطق التهويل والمبالغة، ولكنها عَرضَت هذه القضايا والشؤون بأسلوبٍ وَصفيّ يُحلّل خُصوصيات المجتمع اللبناني ولا يقفز على الوقائع والأحداث، ولا على الماضي الذي يحكم راهنها بشدّة، يُقيّدها ويفسّرها ولا مَندوحَة من تحليله وتعَريته.

ورغم هذا التريّث، تظلّ المقاربة التي نَسجتها الكاتبة وثيقةَ الصلة بالنضال النّسوي الرشيد، الذي لا يقع في فخاخ الإسقاط ولا ينجرّ إلى منطق التماهي والقفز على الواقعات، بل يَسعى إلى إحداث التغيير من خلال الأطر والبنى الداخلية (كالقضاء والتعليم والاقتصاد والصحّة النفسية والعضويّة)، كما يستضيء بما حصل من متغيّرات في مجال حقوق المرأة والمسارات التي سَبَق وأن قطعتْها. ذلك أنَّ المرأة التي تُحدّث عنها عزّة شَرارة بيضون هنا ليست امرأةَ نوال السعداوي ولا الطاهر الحدّاد، ولا قاسم أمين مِن قَبلهما، بل هي مرأةُ الألفيّة الثالثة، المستفيدة من الثورة الرقميّة بعد أن تعزّزت مكانتها، على الأقل ظاهريًّا، في المجال العام.

خلاصات عن المجتمع اللبناني يمكن أن تشمل الواقع العربي

ولا بدّ في الأخير من الإشارة إلى أناقة اللغة ورشاقة المصطلحات الاجتماعيّة التي وُظّفت في هذا الكتاب، ما يجعل منه إسهامًا فعليًّا في الحقل المعجميّ الخاص بوضعية المرأة وشواغلها القانونيّة ومتغيّراتها الاجتماعيّة في الوطن العربي إبّان العقدَيْن الأخيرَيْن. عَدمُ الكتابة عنها باللّسان الفرنسي أو الإنكليزي هو في حدّ ذاته مَكسبٌ يطوّر المباحث السوسيولوجية العربية ويُرقّيها ويَجعلها أكثر دقّة.

وهكذا، فالكتاب خطابٌ جَريءٌ، يتوسّل بعلوم القانون المجتمعي في سبيل رصد ظواهر العنف ضد النساء، كُتِبَ محمولاً بتَوق الفهم وحُرقة العدالة حتى تُفهمَ أصول العنف ومقاربات الجندر وشؤون اللبنانيات بين فضاء الخاص ومتاهات العام. هو خطابٌ نسويّ عِلمي يستمدّ فَتاءَ عَقيدته من صدق الالتزام بقضايا المرأة وهي تُسهم في صنع التاريخ وكتابة تحوّلاته، تقود ثوراته وتُغيّر من واقعها وواقع شريكها؛ الرجل. وليست هي بالنسوية المسقطة التي تتدثّر بشعاراتٍ عن الواقع منقطعةٍ، بل تبني مسار التحرّر مرحلة فَمرحلة وتُشيّده من لبِنات الفهم والتحليل، لا على مدار الوهم والتخييل.

وهو أيضًا مقاربة شيّقة لقضايا حارقة نمرّ خلال فصوله من أساليب التوصيف العلمي إلى متعة المقابلة ومن برود التحليل الذهني إلى طراوة المعاينة، كلّ ذلك في يسرٍ يجعل الذهن يستحضر أوضاع بعض النساء الدرامية وما تعانيه من مَيْز وإزراء بسبب تخلّف القيَم الذكورية، عبر خطابٍ دقيق أمينٍ، لا يُعادي ولا يُجامل، بل يصفُ فَيَدعو إلى التبصُّر في وضعيات آن لها أن تتغيّر حتّى تُساير وتائر الحداثة وتحملَ الذهن على الاقتناع بعدالة قضيّة المرأة والاصطفاف إلى جانبها، بل جعلها في أولويات البحث الاجتماعي والقانوني وحتى النظر الفلسفي. فَالعربيات أجدر بتَفكير العقلاء وأقرب إلى شواغلهم الفكرية من ترَف التجريد في مسائل ليست من بنات واقعنا بمفاهيم ليست من كَلامنا.


* كاتب وأكاديمي تونسي مقيم في باريس

المساهمون