استمع إلى الملخص
- الجزار يعيد توليد رموز التراث في لوحات مثل "السد العالي" و"الميثاق"، حيث تتحول الآلة إلى كائن أسطوري، مما يعكس رؤيته للحداثة كطقس بصري مشحون بالرمز والمفارقة.
- في زمن تشكيل المواطن الجديد، قدم الجزار بورتريهات مقلقة تعبر عن قلقه من المشروع القومي، مما يعكس رؤيته للحداثة كدين جديد والمثقف ككاهن.
في لوحته "المجنون الأخضر" (1951)، يرسم الفنان المصري عبد الهادي الجزار وجهاً لا يُنسى: رأس أصلع مصبوغ بالأخضر، وقرط غريب يتدلّى من الأذن، ويدان مرفوعتان كقرنين يخرجان من خلف الرأس، كأنهما علامتان سحريّتان أو إشارتان من عالمٍ خفي. العينان غائرتان، لا تنظران إلى الخارج، بل إلى ما وراء الحُجب، في هيئةٍ تجمع بين السكون والتأمل والرؤيا. هذه اللوحة لا تقف وحدها، بل تختصر جانباً عميقاً من رؤية الجزار الفنية: حداثة مسكونة بالأساطير، لا تتوسّل العلم بقدر ما تنقّب في اللاوعي الشعبي، وتحفر في الطبقات المجهولة من المخيّلة الجمعية.
تحلّ الذكرى المئوية لميلاده (1925–1966)، لتعيد إلى الواجهة تجربة فنية لم تندرج بسهولة تحت أي مدرسة أو تيار، وظلّت تطرح من الأسئلة أكثر مما تقدّم من أجوبة. في زمنٍ كانت فيه الحداثة تُروَّج بوصفها مشروعاً قومياً للتنمية، اختار الجزار طريقاً آخر؛ طريقاً تتجاور فيه التروس مع الطلاسم، وتتشابك فيه الآلة مع جسد المجذوب، فما الحداثة التي حلم بها الجزار؟ أهي مشروع تقني؟ أم لغة رمزية تحاول فهم العالم لا تغييره؟
تجربة لا تستعير التراث بل تعيد توليده في حقل بصري جديد
منذ لوحاته الأولى في أربعينيات القرن العشرين، بدا الجزار مشغولاً بعوالم لا تنتمي تماماً إلى الحاضر، ولا تستكين للماضي. هو رسّام الأساطير اليومية، ذلك النسيج الشعبي المركّب من السحر والدين والطب الشعبي والفقر والنبوءة، ولم يكن الجزار فناناً فولكلورياً كما حاولت بعض القراءات تأطيره؛ ففي لوحاته توترٌ خفي بين الآلة والروح، بين الحداثة كما فرضها الواقع السياسي، والحداثة كما تخيّلها هو: رمزية، غامضة، مشوّشة، وربما مأساوية.
لم يرَ الجزار في الآلة مجرد أداة للتقدّم، بل منحها وظيفة أسطورية، فالعملاق في لوحة "السد العالي" لا يبدو ابن المصنع أو الورشة، بل أقرب إلى كائن خرافي، جسده مؤلف من شرائح معدنية، وأنفاسه مشبعة بالضوء والصوت. وفي لوحة "الميثاق"، تتحوّل المرأة إلى شجرة أو كاهنة، يحتشد عند قدميها فلاحون وعمال ورجال دين، وكأننا أمام طقس تأسيسي لعقيدة جديدة؛ عقيدة الدولة التي تبتلع البشر في جسدٍ واحد. في كل ذلك، لا نجد احتفاءً مباشراً بالتكنولوجيا، بقدر ما نجد الرغبة في أسطرتها، وخلق طقس بصري مشحون بالرمز والمفارقة.
وفي لوحات مثل "القدر والمقسوم" و"فرح زليخة"، يعود الجزار إلى الشارع المصري، لا بوصفه مشهداً، بل كونه منجماً للرموز القديمة: كالعرّافة، والمجذوب، والساحر، والمريض النفسي، والفقير الحالم. لكنها ليست عودة نوستالجية، بل قراءة ميتافيزيقية للواقع، تدفعنا للتساؤل: ما السرّ في إيمان الناس بالسحر رغم غزو التكنولوجيا؟ ولماذا نلجأ للأولياء؟ ولماذا نؤمن بالأسطورة؟ هنا يتقاطع الشعبي مع السياسي، والأسطوري مع الاجتماعي، وهذا ما يجعل تجربة الجزار عصيّة على التصنيف، ولا تصلح لاختزالها في خطاب يساري، أو قومي، أو حتى سريالي بالمعنى الأوروبي.
ربما كان عبد الهادي الجزار أول من صاغ، دون أن يدري، ما يمكن تسميته بـ"الواقعية الشعبية الميتافيزيقية"، إذ أنجز تجربة لا تستعير رموز التراث، بل تعيد توليدها داخل حقل بصري جديد، مشبع بالقلق والخرافة والتأمل، وبعيد عن أي سذاجة احتفائية. فحتى في أكثر لحظاته انخراطاً في المشروع القومي، ظل يرسم شكّه وهواجسه: الوجوه المتجهمة، والأجساد الخضراء، والأذرع الممدودة نحو لا شيء.
في لوحاته المرتبطة بالمشروع القومي، تتكرر الآلة ككائن يكاد ينطق، ويتجلى ذلك بوضوح في "السد العالي"، حيث يتحوّل الرأس الإنساني إلى وجه معدني، مغطى بما يشبه قناع الفرسان، نصف شفاف ونصف صلب، فيه ملامح من المقاتل القديم ورائد الفضاء في آنٍ واحد. ذلك القناع المعدني لم يكن تفصيلة تشكيلية عابرة، بل علامة طقسية مشحونة بالدلالة؛ وجهٌ محجوب، كأننا أمام قديس تكنولوجي، يتجسّد فيه طموح الإنسان في السيطرة على مصيره، بقدر ما يتجسّد فيه قلقه من انفلات هذه السيطرة.
الجسد المتشابك مع الأسلاك، والعينان المعلّقتان في الأفق، لا ترسمان صورة بطولية بقدر ما تستدعيان مشهداً شبه طقسي، لكائن على حافة التقديس أو الذوبان. من حوله، رموز الحياة اليومية المصرية، لا لتعارضه، بل لتُكمل هالته؛ كأننا أمام طقس ديني، أو تتويج غير معلن، حيث يُرفَع المشروع القومي إلى مصاف المقدّس، وتتحوّل الآلة إلى إله صاعد.
هنا، يبدو الجزار وكأنه يرسم ليس فقط حلماً للتقدّم، بل أيضاً أسطورة للسلطة الحديثة. مشهدٌ يحمل في عمقه ارتباكاً حقيقياً: فهل هو نشيد للنهضة؟ أم معبد جديد يُشيَّد على أنقاض الإنسان؟
بدا المواطن في اللوحة أشبه بأجساد بشرية تسكنها الطلاسم
في "الميثاق"، تأخذ هذه النزعة الدينية بُعداً آخر. فالمرأة الواقفة في قلب التكوين، بوجهها الحجري الأخضر، وتاجها المزيّن بنسر الجمهورية، تبدو أقرب إلى كاهنة منها إلى رمز وطني. يحيط بها الفلاح والعامل ورجل الدين في وضعية أقرب إلى السجود أو القسم، بينما هي ترفع "الميثاق" بيد، وتمنح بركة غامضة بالأخرى.
هنا لا يتم تمجيد الآلة فقط، بل تحويل المشروع السياسي إلى طقس ديني جماعي، ويصبح "الميثاق" كتاباً مقدساً، ويصير الجسد الإنساني، كما في رسم الكاهنة، أداة لتجسيد الروح القومية. لكن، كما في لوحات الجزار دائماً، الحضور المقدّس لا يخلو من قلق؛ فلون البشرة الأخضر، والعيون الجامدة، والتضخيم المتعمّد لليدين والقدمين، كلها تفاصيل تنزع عن اللوحة طابعها الاحتفائي، وتمنحها رهبةً غامضة.
في كلتا اللوحتين، "السد العالي" و"الميثاق"، تتجاور عناصر التقنية مع إشارات الطقس الديني والأسطورة. لا تفصل بين المقدّس والدنيوي، بل تدمجهما. الجزار لا يقدم هنا يوتوبيا براقة، بل أيقونات للقلق الحديث؛ مخلوقات نصف بشرية، نصف آلية، معلقة بين الحلم الجماعي والموت الرمزي، بين المجد الظاهري والانكسار الباطني. ربما التقط الجزار، بحسّه البصري الحاد، تلك اللحظة التي تحوّلت فيها الدولة الحديثة إلى دين جديد، والمثقف إلى كاهن، والمشروع الصناعي إلى سردية خلاص جماعية. لكنه لم يبتلع هذه السردية، بل شكّك فيها من الداخل، عبر التكوين، واللون، والرمز.
كان الجزار قارئاً للقرآن، دارساً للهيروغليفية، مهتماً بالخيال العلمي والرياضيات والتكنولوجيا. فلا عجب أن تظهر في بعض لوحاته مخلوقات هجينة، تجمع بين ملامح البشر والآلة، بين الواقع والأسطورة. إنها ليست أشكالاً غريبة من فراغ، بل صدى لمخيلة تقرأ العالم كشبكة من الرموز؛ حيث المجذوب شبيه برائد الفضاء، والطاحونة اليدوية شبيهة بالكواكب الدوارة، والميثاق السياسي مرآة لكتاب مقدّس غامض. في هذا المعنى، يبدو الجزار وكأنه فنان صوفي للحداثة؛ لا يُنكرها، ولا يُمجّدها، بل يخترقها عبر رموزه وأقنعته ومجاذيبه، ليرى هشاشتها، وسحرها، وقلقها، ووعدها الزائف أحياناً.
في زمنٍ كانت فيه الدولة المصرية ترسم ملامح المواطن الجديد، قدّم الجزار بورتريهات مقلقة لهذا المواطن، الذي بدا أشبه بآلة بروح منهكة، أو بأجساد بشرية تسكنها الطلاسم. لا يحتفي الجزار هنا بالمشروع القومي، بل يسكنه؛ يراقبه من الداخل، ويعيد رسمه كأيقونة باهرة ومخيفة في آنٍ.