عبد العزيز العِرْوي.. أسطورة الأسطوانة النحاسية

عبد العزيز العِرْوي.. أسطورة الأسطوانة النحاسية

17 ديسمبر 2021
عبد العزيز العروي
+ الخط -

تستعيد هذه الزاوية شخصية ثقافية عربية أو عالمية بمناسبة ذكرى ميلادها، في محاولة لإضاءة جوانب أخرى من شخصيتها أو من عوالمها الإبداعية. يصادف اليوم 17 كانون الأول/ ديسمبر ذكرى ميلاد الحكواتي التونسي عبد العزيز العروي (1898 - 1971).


لستُ من ذلك الجيل الذي تربّى على حكايات عبد العزيز العروي في الراديو، في زمن لم تكن توجد فيه تلفزيونات، ولكن فتنته قد وصلتني عبر تحويل بعض حكاياته إلى حلقات تلفزيونية في التسعينيات، كما بلغني رجع صدى "زمن الراديو" ممن أعرفهم من أقاربي، حتى أن معظمهم يؤكّد أن مذاق حكاياته مسموعةً أكثر روعة منها على الشاشة.

يكفي أن ينقر على الأسطوانة النحاسية حتى يفصل بين عالمين. يقترح العروي حكايات مثَلية مبسّطة، لكنها في ذات الوقت مُبهرة، حكايات تبتلع المُشاهد (وقبله المُستمع) بسرعة على الرغم من أن مكوّنات العجائبي فيها لا تقوم على الخروج بعيداً عن الواقع، ففي حكاياته لا يوجد أبطال خارقون ولا حيوانات أسطورية، ليس هناك سوى تأثيث للفضاء المتخيّل بالحد الأدنى من العناصر كأن يضعنا في قصر أحد السلاطين أو يحدثنا عن سوق في مدينة ما لينطق في سرد حكاية عن أحد التجّار.

كما أن حبكة العروي تقوم على خطوط منطقية حتى لو استدعى عوالم منفصلة عن واقع الحياة اليومية، وهو في ذلك لا يخرج على أساس القصة المثَلية من حيث أنها قابلة للإسقاط بسهولة على الواقع حتى لو كانت مركّبة على مفردات أزمنة وأماكن مختلفة تماماً.

لم يُدرس علمياً، وكأن لا أحد يحبّ أن يفكّك أسطورته

عبر هذه الأدوات البسيطة، أخذ العروي موقعاً أساسياً في ضمائر التونسيين، موقع قلما جرت دراسته من منظور اتصالي، ولا حتى ثقافي أو سياسي. هو أقرب إلى منطقة نوستالجية طوباوية في الذاكرة لا تذهب إليها المناهج العقلانية، وكأن لا أحد يحبّ أن يفكّك أسطورتها. في حين يفترض أن يكون فهم هذه "الميثولوجيات"، بالمعنى الذي نفهمه من رولان بارت، جوهر الاهتمام بالثقافة.

كان العروي أحد أبرز وسائل تجميع التونسيين. قليلة هي الظواهر الشبيهة به مما نجحت في إطلاقها أجهزة الثقافة في تونس. ما الذي يسحر في مكنونات حكاياته؟ لماذا كانت تلامس الناس وتشغلهم عن كل شيء؟ ولماذا توارث التونسيون حب العروي؟ ليس من السهل أن يمسك أحدهم بمفاتيح دهشة التونسيين، أن يفعل فيهم بنقرة على الأسطوانة النحاسية ما تعجز عنه الإستراتيجيات العلمية للاتصال، والتي كانت توظّف في الخطاب السياسي خصوصاً؟

بدأ العروي مساره من نقطة بعيدة عن ذلك الموقع المؤثر الذي بلغه، فقد اشتغل في شبابه كموظّف في عدد من المصالح الحكومية، ولكن تقاطعه مع مثقفي جماعة "تحت السور" سيفتح له أبواباً كانت غير مرئية، فاشتغل في المطابع ومنها انفتح على عالم الصحافة أواخر العشرينيات من القرن الماضي، ليصبح أحد الناشطين في هذا القطاع مع إصدار جريدة "الهلال التونسي" سنة 1930. 

مع تأسيس الإذاعة التونسية في 1938، التحق بها مذيعاً وبقي فيها حتى رحيله، وضمنها عشر سنوات مديراً لها، بين 1946 و1956. تعوّد التونسيون على صوته كقارئ للأخبار، ثم لم يلبث أن أخد مساحات أوسع فابتكر برامج يعلّق فيها على الأحداث في تونس والعالم، وهناك كان يخلط المادة الخبرية بروح الدعابة التي يستلهمها من إنصاته اليومي لحكايات الناس، كما يؤكّد بنفسه، ولاحقاً مع توسّع المساحة الزمنية للبث بات رفيق التونسيين في سهراتهم.

مسار عاديّ للغاية خرج منه شيء شبيه بـ"ألف ليلة وليلة" تونسية؛ ليس فقط من زاوية العوالم التخييلية المقترحة بل أيضاً باعتبار أن الحكايات التي يرويها العروي أقرب إلى صياغة محدّثة للتراث الحكائي الشعبي، ومن وراء ذلك تظهر معايير القيم التي تنتج في النهاية كل العلاقات الاجتماعية. إنها موسوعة للحكمة الشعبية.

المساهمون