عبد الرزاق المصباحي: النقد الثقافي ومرجعياته

عبد الرزاق المصباحي: النقد الثقافي ومرجعياته

11 سبتمبر 2022
(ماكس هوركهايمر وثيودور أدورنو في مدينة هايدلبرغ الألمانية عام 1956)
+ الخط -

في كتابه "النقد الثقافي: قراءة في المرجعيات النظرية المؤسِّسة"، الصادر حديثًا عن "المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات"، يُحاول الأكاديمي والباحث المغربي، عبد الرزاق المصباحي، تقديم قراءة موسّعة وناقدة للمرجعيات النظرية المؤسِّسة للنقد الثقافي، ممثّلةً في أطروحات مدرسة فرانكفورت، ومثقّفي نيويورك، والدراسات الثقافية البريطانية، ثمّ في التوجّهات التي تُحسَب على النقد الثقافي ما بعد الحداثي: المادية الثقافية، والتاريخانية الجديدة، وما بعد الكولونيالية، ودراسات التابع.

ويركّز الكتاب على الأثر البالغ لكلّ من دوغلاس كلينر، وميشيل فوكو، وإدوارد سعيد، في التحوُّلات التي شهدها النقد الثقافي منذ سبعينيات القرن العشرين.

يستعرض العملُ حزمةً موسّعة مِن المرجعيات الفكرية والنقدية المؤسِّسة للنقد الثقافي. لكنّه لا يكتفي بالتأريخ أو الاستعراض الكمّي، وإنّما يحاول استثمار تلك المرجعيات لاقتراح مداخل نقدية جديدة في النقد الثقافي تنظيرًا وممارسةً.

يقترح الكتاب بناء مفهوم مختلف للنقد الثقافي لا يضعه في صراع مع النقد الأدبي

مِن بين تلك المداخل التي يقترحها المؤلّف: بناءُ مفهوم مختلف للنقد الثقافي لا يضعه في صراع مع النقد الأدبي، أو إلغاء "الجمالي" من مجال اشتغاله، إضافةً إلى محاولة تقديم تصوُّر واضح عن مشكلة "المنهج" و"المفاهيم الإجرائية" التي يستعيرها النقّاد الثقافيون من منظورات نقدية وفكرية متنوعة، أو التي يجترحونها لمقاربة النصوص والخطابات.

في حديثه عن النقد الثقافي والدراسات الثقافية، يُشير المصباحي إلى أنّ ثقافة الوسائط هي الموضوع الأساسي للدراسات الثقافية؛ حيث كانت ثقافة الإعلام وتكنولوجيا الإعلام، منذ مدرسة فرانكفورت - وخصوصًا مع ماكس هوركهايمر وتيودور أدورنو وهربرت ماركوزه - أهمّ موضوعات النقد الثقافي الألماني الذي امتد إلى الولايات المتّحدة التي وجد فيها أدورنو وهوركهايمر المجال الخصب لدراسة أثر الإعلام في تنميط الأفكار وأنماط الاستهلاك، وذهب ماركوزه إلى أبعد من ذلك، حين أشار إلى اختفاء الطبقات الاجتماعية، حيث حلّت محلّها التكنولوجيا التي تتحكّم في حيوات الناس، لاغيةً أفكارهم وانتماءهم الطبقي.

أما "مثقفو نيويورك"، فيقول المؤلّف إنّهم ورغم احتقارهم الثقافة الجماهيرية، فإنهم، وبسبب نقد بعض أعضاء مدرستهم، وعلى رأسهم موريس ديكشتاين ودوايت ماكدونالد، احتفوا في مجلّتهم Partisan بالسينما الجديدة وموسيقى بوب ديلان، وهما شكلان لثقافة الوسائط.

وينطبق الأمر نفسه على الدراسات الثقافية البريطانية التي منحت ثقافة الوسائط اهتمامًا واسعًا بوصفها نصوصًا، ودعت إلى مجتمع ديمقراطي تعبّر فيه جميع الطبقات عن نفسها، وتسمع صوتها عاليًا، من دون خوف ولا خضوع لمراقبة وتحكم دائمين من طبقة مستحكمة.

الصورة
النقد الثقافي - القسم الثقافي

ويرى المؤلّف أن مصطلحَي النقد الثقافي والدراسات الثقافية يمكن استخدامهما باعتبارهما يحيلان إلى الأمر نفسه تقريبًا؛ ذلك أنهما يتفقان في موضوع الاشتغال؛ أي ثقافة الوسائط في علاقاتها المركّبة مع مفاهيم الثقافة الشعبية والثقافة النخبوية والطبقة وصناعة الثقافة والجندر والعولمة والحداثة وما بعد الحداثة؛ حيث من الصعب الوقوف على فروق جوهرية مانعة بين مفهومَي النقد الثقافي والدراسات الثقافية؛ فالأخيرة والتي تأصّلت بسبب جهود مركز برمنغهام، هي تطوير للنقد الثقافي في صيغته الألمانية التي رسختها مدرسة فرانكفورت.

ويضيف بأنّه تبعًا لإحالات الدارسين الثقافيين إلى مدرسة فرانكفورت، يظهر أن العلاقة بين النقد الثقافي والدراسات الثقافية هي أن مفهوم الثاني يعدّ صيغة متقدمة للأول؛ إذ هناك تشابهٌ بين استراتيجيتيهما، ومجالا اشتغالهما واحد.

هدف النقد الثقافي هو تفكيك أنساق الهيمنة التي تمارسها المؤسّسة للتحكّم في الإنسان

وفي حديثه عن "النقد الثقافي والمظلّة"، يذكر المؤلّف أنّ "مركز برمنغهام للدراسات الثقافية البريطانية" ابتكر مصطلحاً نقدياً هو "المظلّة"  Umbrellaعام 1971، وهو مفهوم يجعل من النقد الثقافي مظلّة لمجالات متنوّعة؛ منها: نظرية الأدب، وعلم الجمال، والنقد، والتفكير الفلسفي، وتحليل وسائط الإعلام، والثقافة الشعبية، والتحليل النفسي، وعلم العلامات، والنظرية الاجتماعية والأنثروبولوجية... وهي وفرة منهجية يقول الكاتب إنّها مستمدّة من النقد والأدب وعلم الجمال والعلوم الاجتماعية والإنسانية، وهو نفسه ما دعا إليه "مثقّفو نيويورك".

برأي المصباحي، فإنّ مصطلح "المظلة" يمنحنا فرصة لنؤطّر أغلبية الاتجاهات المتفجرة في ما بعد الحداثة النقدية ضمن مظلة النقد الثقافي أو الدراسات الثقافية، باعتبارها منظورات نقدية يستند إليها لتحليل صيغ الثقافة وأنظمتها وتأويلها في اشتباكها مع تحولات المجتمع وأنساق الهيمنة. كما يسعفنا في البحث عن الصلات والتقاطعات بين الاستراتيجيات النقدية لما بعد الحداثة، ممثلة في التاريخانية الجديدة والمادية الثقافية وما بعد الكولونيالية والنقد النسوي.. والتي يفترض أنها تنويعات للنقد الثقافي.

ويخلص الكتاب إلى أنّ الغاية الكبرى في مختلف التوجهات النقدية المؤسسة للنقد الثقافي، سواء مدرسة فرانكفورت أو "مثقفو نيويورك" أو مركز برمنغهام للدراسات الثقافية، هي تفكيك أنساق الهيمنة التي تتدثّر في أشكال مختلفة؛ تلك التي تمارسها المؤسّسة الساعية إلى التحكّم في الإنسان وتنميط ذوقه وفكره وسلوكه بما يوائم مصالحها، ثم احتواء كل فعل يحاول تغيير الواقع وإقصاءه، أو الثورة على النظام الذي يحمي المؤسّسة، بالمخاتلة عبر المتعة المستعذبة والمستعبدة، أو بالقوة حين يكون اللجوء إليها ضروريًّا.

المساهمون