طبول وأوتار

طبول وأوتار

14 أكتوبر 2020
جزء من عمل لـ سعد يكن/ سورية
+ الخط -

عندما نقرأ حكايةً في رواية، نُسارِعُ إلى تَلمّس تأثيرها فينا، حتى لو لم نكن واعين لعمق الآثار التي تتركها الفنون والكلمات وراءها. إذ إنّ كلّ قراءةٍ هي صدىً لتجارب عاشها القارئ، أو أمِل أن يعيشها في حياته. وبذلك يكونُ الأدب الذي ينطوي على عمقٍ أو تجربة إنسانيّة فنّاً مؤثراً. يبحث عن طبولٍ ليقرعها داخل القارئ بيدين صلبتين جبّارتين، ويبحث عن أوتارٍ حتى يهزّها هزّاً رقيقاً.

لربّما يشبه الأدب الواقعيّ الذي يرصد واقعاً قاسياً قارع الطبول، وسؤال الأدب حينها، هو سؤال موجّه، لا لمن يرزح تحت ثقل الواقع وإنّما موجّهٌ إلى جمهورٍ غير معروف، يَخال الكاتب أنّه موجودٌ وقادرٌ على تغيير شيء. فالكاتب الذي ينصاعُ بأدبهِ للحقيقةِ الواقعيّة يبحث في النهاية عن التأثير، لا في من يرزحُ تحت الآلام، وإنّما في الآخر، المُفتَرَض وغير المؤثر. 

وهذا اعترافٌ يشقّ على الكتّاب الاعترافُ بهِ. ويعرفُ آخرون في أعماقهم، أنّ ما ينقلونه من واقع هو فقط لرميه في محفوظات التاريخ، لعلّ دارساً يلتفتُ إليهِ. بذلك تكتفي الكتابة الواقعيّة بكونها تصريحاً بالواقع المُتأزِّم، وفي التصريح شيءٌ من الإدانة. كما أنّ ثمّة رأياً مفادهُ أنّ القارئ في بلدان حالها بالغ السوء، يبحث عمّا يشغله عن السوء، عمّا ينقذه منه، عمّا يحرّره من ثقل أسئلة الواقع وعقم الإجابات التي تقدمها الحياة، وتقصرُ عنها أعتى النصوص إذا ما قرأها قارئٌ متألم، مكلومٌ أو جائع. 

يؤثر الأدب عبر بحثهِ عن طاقة الحبّ الدّفينة لدينا

لكن من جهة أخرى تبدو القصص الرومانسيّة، إذا ما كانت تطلّ على الواقع، قصصاً مؤثّرةً، فهي تعزِفُ على تلك الأوتار المهملة في النفوسِ الموحشة، تغنّي للحبّ وتُنْشِدُ بالرِّقَّة والخلاص الحالم. وعندما نبحث عن روايات امتلكت تأثيراً لا خلافَ عليهِ، نذكر رواية غابرييل غارسيا ماركيز (1927-2014) "الحبّ في زمن الكوليرا". 

غير أنّنا ما إن نعرف أنّ قصتها عن رجل انتظر حبيبتهُ خمسين عاماً، كي يتزوجا، حتى ننفي مباشرةً واقعيتها ولربما نعتبر أنّها طرفةٌ لا تستحقُ الوقوف عندها. لكن ما إن نبدأ قراءتها حتى نؤجل البحث عن الواقعيّة، ونعرف أنّ ماركيز بلغ ذلك التّأثير، لا من خلال الحكاية ذاتها، بل عبر بحثهِ عن طاقة الحبّ الدّفينة لدينا، وهذا ما يأسر القارئ في كلّ تفصيل أثناء بناء الحكاية بتنويعاتها الجماليّة كافةً، لنكون بعد انتهاء الرواية غير آبهين بواقعيّة قصة الانتظار العجيبة، بل نبارك انتظار الشاب الذي صار عجوزاً، ثمّ نبحث في محيطنا عن أحدٍ يجيدُ ذلكَ الحبّ أو على الأقل يفهمه ويباركه، وننسى أنّنا لو سمعنا حكاية الانتظار في واحدة من مدننا أو قرانا، لما واصلنا سماع التفاصيل، إلا من باب التندّر، لكن في رواية ماركيز الأمر مختلف، فالحكاية المتقنة أسرتنا. 

أثّرت فينا، وجعلتنا نفكر في الحبّ، نرغب بأن نكون محبوبين، وأن ينتظرنا أحدٌ ما. في الوقتِ ذاتهِ، لا يعودُ الحبّ سؤال الرواية الشهيرة، وإنّما حال العاشق المتوهِم الذي انتظر محبوبتهُ طوال حياتهِ، كما لو أنّها خرافةُ نجاتهِ الذاتيّة.

تختلف الفنون عن الواقع بأنّها تنقلهُ على نحو يحتمُ عليهِ أن يظهَرَ مؤثراً، وإلا ما الحاجة للفنّ؟ ما الإضافة التي يصنعها لدى متلقيه، إن لم يكن مؤثراً؟ بذلك نفهم تأثّر المُتَلقي للوحة عبّاد الشمس لفان غوخ، أكثرَ من تأثرهِ برؤية حقل عبّاد شمس في الأرياف، ونفهم على نحوٍ ما، أنّ لصناعة ذلك الأثر ينبغي أن يطلّ الفنّ على الواقع، أن يجمعَ المُتَلقي بواقعه أو يُلمّح لهُ، أن يُظهِرَ جمالياتهِ بإتقان، وبواطنهُ بشجاعة. أن يخرجَ من الواقع، أو ينتهي إليهِ. 


* كاتب من سورية

موقف
التحديثات الحية

المساهمون