طائرٌ حجريّ ملوّنٌ علّمني الكلام

طائرٌ حجريّ ملوّنٌ علّمني الكلام

08 ديسمبر 2020
تفصيل من لوحة لـ أنسلم كيفر/ ألمانيا
+ الخط -

هذا الطائر

طائرٌ حجريّ
ملوّنٌ
دائمٌ في أحلامي
ربما كان
في عمق طفولتي
ربما حلّق معي
ربما علّمني الكلام
ربما رافقني في أسفاري
وعند منعطف ما
في لحظة ما
أو أمام رعبٍ ما
توقّف عن التحليق
عاد إلى حالته الحجريّة
في عمق الماضي.

■ ■ ■

كأنما في برية بعيدة


لوحاتٌ
مرايا
لا منفذَ إلى أفيائها
أو صمتها
لا منفذَ إلى الأخضر والأحمر
والبرتقالي
لا منفذَ إلى ما وراء وميضها
كأنها في برّيةٍ بعيدة
في زاويةٍ من زوايا هذا العالم..
ولكنني أسمع رنيناً
كأن القدس
أثينا
روما
طليطلة
صوفيا
بيروت
بغداد
بطرسبرج..
كلّ عواصم العالم
ترنّ أجراسها في وقت واحد.

■ ■ ■

تبتسم المرأة

تبتسم المرأة مشفقة...
ذاكرتي خاوية
باتساع البحر
تقول أنني أتلبس ذاكرتها عبثاً
(هي بلا ذاكرة)
أنتمي إلى ليلها عبثاً
(هي بلا ليل)
أتجول في بساتينها عبثاً
(هي بلا بساتين)
تهمسُ
كأنها تتذكّر:
ربما كنتُ وهماً..
(تسحب يدها بلطف..
يصيبها شرودٌ مفاجئ)
حتى أنني لم ألمس يدكَ
لم ألتق بكَ
لم يكن لأيّ شيء مما يحيط بنا
هذا البار وهذه الوجوه والأصواتُ
فراغ تنحته كلمات
منازلُ نلجأ إليها إن أحببنا
أنا تأويل بين آلاف التآويل
مثلما أنت متوحّد بين آلاف المتوحدين.

■ ■ ■

حين وصل البرابرة

طريقٌ صحراوي
برّية شاسعة
نجومٌ بلا عدد
والطفولة أفقٌ مفتوح
على بشرٍ من مختلف الأنواع ينتظرون عودتي
بعد كل هذه السنوات
وفي هذه السن
وبهذا المعطف الذي يلفّني
وهذا الرحيلُ تحت النجوم
وهذا الرفيقُ التائقُ للوصول
ليعجل بالعودة
فالوصول!
ما الذي بقي من أيامنا؟
قصيدة أم أغنية؟
كل شيء يبدو منتزعاً
من إطارٍ مجهول.

■ ■ ■

روما ذات مساء

نافورة تريفي
تنشر الرذاذ
وحول حوافها العالية
يجلس كثيرون
تتراءى صورهم في البركة
كثيرون
كأنما الخلقُ في حالة نشور
ساهمون
ضائعون
صامتون
أمام المياه السائلة على أجسادِ التماثيل
الوقتُ مساءً
وروما في الساحاتِ
على الدرجات الإسبانية
ورسامو الكاريكاتورا
غادروا بياتسا نافونا
إلى مطاعم هادئةٍ
ونبيذٍ رخيص
إلى غرفٍ تخلع فيها الهيبيّاتُ قمصانهن الخفيفة
ساحة سان بيترو مقفرة
ومن الإفريز الدائري العالي حولها
يطل مائة تمثال
لقديسين وقديسات
غارقين في الرخام.

■ ■ ■

على هضبة التبت النائية


يمرّ النسيمُ
على البوكنفيليا المثقلة
على أوراق المندلينا
وعلى المقاعد البيضاء المتناثرة

يمرُّ النسيمُ
على الحديقةِ الخالية
يتوقف عند السور
باحثاً عن شيء يلمسه
عن شيء يتعلّق بالإنسانِ
عن كوبِ شاي أو قدح
عن طائرٍ حجري ملوّن
ما زال ملقىً بين الأعشابْ

يمرُّ النسيمُ..
على هضبة التبت النائية
وظلالها
على وجه امرأة يستقبل الضوءَ
والظلَّ
يرفّ الجفنان
تتعمق خضرة العينين
يلمع شعرها الكستنائي الناعم
فوق تلك الصخرة الناتئة
فوق سقف العالم.

■ ■ ■

كالنسيم بين الأوراق


لا أزمنة تلتقي
لا أمكنة
ربما يلتقطنا ضوءُ غروبٍ
أشباحاً عابرة
ربما تصدرُ بوكنفيليا أرجوانية
أشد خلوداً من خطواتنا
حفيفاً
أو يمرّ نسيمٌ بين أوراقِ يابسةْ.


■ ■ ■

حكاية

من فرجةٍ بين أشجار غابة
تضيئها شمسُ منتصف النهار
دعته كاهنة
فتقدّم وجلاً بين الأشجار
عرّته نظرتها
فتحوّل إلى ماءٍ دافق
فغمغمت بصوت مبحوح:
سأجعلك كاهني الوحيد
متاهتي الوحيدة.


■ ■ ■

من نافذة القطار

لليل وشوشة وتمتماتٌ
تتجمّع وتتباعدُ
وراء نافذة قطار يسيل
بين البطاح والسهول
بيوتٌ وساحاتٌ
طيورُ سنونو سوداءُ
وعناقيدُ نجوم
وحمائمُ في ساحة سان ماركو
فضاء يترامى
غجرية
أمام بوابة حدائق الحمراء
نسمات رخية
في صيف الحجارة الرومانية
وزوايا بار قليل الروّاد
دخانٌ
رائحة نبيذٍ
وامرأة واسعة العينين يهتز نهداها
كلّما قدّمت كأساً
أو ضحكتْ
وهي تصغي إلى عجوز
منحنٍ على كأسه يسامر أشباحاً

لليلِ وشوشةٌ
وظلالٌ تتتابعُ
وراء نافذة قطار يسيل
بين البطاح والسهول
والضوء الغاربِ
شيئاً فشيئاً
يترك للظلال
والتلال وحدها
أن تجمع أشجارها
أن تجمع الجداول والصخور
وتهجع
في الهزيع الأخير من الليل

■ ■ ■

وأنتِ في النافذة

ميادينُ العواصم تغصُّ بالمارة
وتشهد المطاراتُ خليطاً عابثاً
من رجال ونساء
ينتظر عند بواباتِ الخروج
وجوهٌ تجيء وتمضي
ومذيعة تعلن عن طائرة مغادرة
في هذه اللحظةِ أسمعُ اسمكِ
يتردّد
أراكِ في محطةِ القطار الذاهبِ شمالاً
في فينيسيا
عند الغروب
أرى وجوهاً صامتة وراء نوافذ القطار
وأنتِ في النافذة ذهبٌ وأرجوان
وكلُّ ما يغادر إلى الأبدْ


* شاعر وروائي من فلسطين

موقف
التحديثات الحية

المساهمون