ضياء العزاوي.. جداريات تتأمل مدن المشرق

27 سبتمبر 2025   |  آخر تحديث: 13:53 (توقيت القدس)
جوانب من المعرض (العربي الجديد)
+ الخط -

استمع إلى الملخص

اظهر الملخص
- تسلط الدراسة الضوء على تأثير التحولات السياسية والاجتماعية في الستينيات على أعمال الفنان ضياء العزاوي، وكيفية تفاعل المشاهد مع جدارياته، مما يعكس التزام الفرد بتاريخ الجماعة.
- يُقام معرض "شهود الزور" في غاليري صالح بركات ببيروت، ويستمر حتى نهاية أكتوبر، ويعرض جدارية تمثل مجزرة صبرا وشاتيلا، مما يعكس تجربة العزاوي وعودته إلى بيروت.
- يتضمن المعرض أعمالًا متنوعة مثل منحوتات "وردة أكتوبر" وتمثال "حنظلة في لبنان"، حيث تتجلى تأثيرات بيكاسو في تحويل الألم الجمعي إلى بنية بصرية للتأمل.

في دراستها "ضياء العزاوي: من بغداد إلى بيروت، مسار فنان عربي شابّ في ستينيات القرن الماضي" (جامعة بريستول، 2023)، تصف الأكاديمية ومؤرّخة الفن زينة مصري الفنان العراقي باعتباره أحد الفنانين الذين نشؤوا فنياً وسياسياً في فترة (أي عقد الستينيات) شهدت تحولات كبيرة في فنّ ما بعد الاستعمار، وحركات التحرر والثورات، وخيبات الأمل.

هذه الخلفية التاريخية والسياسية لا تؤثر على مضامين أعمال العزاوي فقط، بل تمتد إلى الطريقة التي نتأمّل فيها أعماله؛ فلكي يلتقط المُشاهد جدارياته بشكل كامل، يحتاج إلى الابتعاد قليلاً عن اللوحة ليتملّى تفاصيلها جميعها، ففي النظر هنا شيءٌ من علاقة الالتزام التي تربط الفرد بتاريخ الجماعة، كما عبّر عنها جيل الستينيات.

ضياء العزاوي -القسم الثقافي
تصوير: منصور الهبر (غاليري صالح بركات)

"شهود الزُّور" هو عنوان معرض العزاوي (1939) الجديد، والذي يتواصل في غاليري صالح بركات ببيروت حتى نهاية أكتوبر/ تشرين الأول المُقبل، كانت قد سبقته محاضرة تمهيدية للفنان في "الجامعة الأميركية"، وتُوازيه مساهمة مركزية منه في معرض جماعي بعنوان "شواهد النار"، يُقام في ملتقى دلول للفنّانين، من خلال جدارية منسوجة تمثّل مجزرة صبرا وشاتيلا، اشتغلها الفنان عام 2018، بالاستناد إلى عمله الأصلي المُنجَز بين عامَي 1982 و1983. جولةٌ بيروتية تمثّل خلاصة تجربة، وعودة إلى المدينة التي نظّم فيها معرضه الأول خارج العراق أواسط الستينيات.

تجريد يقتبس أسلوب بيكاسو ويعيد تركيب الحدث والذاكرة

في الطابق العُلوي من الغاليري، تُطالعنا منحوتة من سلسلة "وردة أكتوبر" (ستانلس ستيل، 2023)، وتمثال "حنظلة في لبنان" تحيةً للرسام الفلسطيني ناجي العلي، بالإضافة إلى رسومات فحمية من سلسلة "ليلة الإبادة" (2023)، ودفتر فنّي بعنوان "غزة: الألم الذي فتح عينَي ابنتي" (2025). لمحةٌ سريعة تُقدَّم بامتداداتٍ أوسع حين ندلف إلى الطابق السفلي الذي يكشف أولاً عن جدارية مزدوجة بعنوان "خريطة لبغداد بعد 2003" (أكريليك على قماش، 2023)، وعلى الجانبين تعود "وردة أكتوبر" لتُصادفَنا بنسختين أُخريين، بالإضافة إلى تماثيل طوطمية بلا عنوان، مشغولة من البرونز.

العزاوي - القسم الثقافي
عودة إلى مدينة معرضه الأول خارج العراق (العربي الجديد)

بالوصول إلى قلب المعرض نجد أنفسنا أمام أربع جداريات ضخمة، يتوسّطها تجهيز عنوانه "أطلال بين مدينتين: الموصل وحلب" (بوليستر ريزن، 2020) مثقلٌ بنزعة تدميرية طللية، يمتدّ على أرضية القاعة، وسبق للعزاوي أن قدّمه في الدورة الثامنة والخمسين من "المعرض الدولي للفن المعاصر" الذي يقيمُه "متحف كارنيغي" في ولاية بنسلفانيا الأميركية. 

في الجدارية الأولى (أكريليك على قماش، 800×270سم) التي يستمدّ المعرض عنوانَه منها، لدينا مزيجٌ تجريدي من الخطوط، يُظلّل الأسود والأحمر المشهد، حيث يرتفع على يسار اللوحة شهيد مصلوب، وجمعٌ من الناس يُديرون ظهورهم له. وفي المقابل جدارية ثانية بعنوان "جنّة المنسيّين"، والتي تقدّم أسماء أكثر من سبعمئة شهيد عراقي سقطوا خلال الانتفاضة التشرينية عام 2019، مازجةً طقوس المآتم الإسلامية التراثية، مثل النساء اللاتي لا ملامح لهنّ متّشحات بالسواد والعويل (المكتوم)، بموتيفات تشكيلية مستمدّة من الرثاء الرافديني.

العزاوي -القسم الثقافي
جسدٌ مشدود إلى روح الجماعة (العربي الجديد)

عند هذا الحدّ يستحيل التشكيل إلى ضرب من الحفر والنحت القديم، في حين يُضفي اثنا عشر طائراً خزفياً، تتوزّع أسفل الجدارية، نوعاً من السكينة على مشهدٍ انتقل فيه الشهيد المصلوب (صفاء السراي) من الهامش إلى مركز العمل. هذا التراسل بين الجداريّتين ما كان ليتمّ لولا المسافة المبتكرة والاستناد المتين اللذان أشرنا إليهما في مطلع المقال، لوحةٌ ترفع إلى أُخرى، وجسدٌ مشدود إلى روح الجماعة.

وبالمثل حالةُ التقابل بين جداريَّتَي "الموصل: بانوراما الدمار" (قطن، وأكريليك، وصوف، وخيوط، 280×1000سم)، و"أمنيات خفيّة" (أكريليك، وزيت باستيل على قماش، 200×900سم)، تعود تأثيرات بيكاسو لتحضر بقوّة تجريدية لا بوصفها اقتباساً شكلياً فحسب، بل منهجاً تفكيكياً وإعادة تركيب للحدث والذاكرة، حيث تتناوب شظايا المدن والوجوه والحيوات في مسطّحات متكسّرة، تجعل الخراب لغة تشكيلية بحدّ ذاته، وتحوّل الألم الجمعي إلى بنية بصرية للتأمل في ما بعد الكارثة وما بعد الشهادة.