ضمانة الأخلاق

ضمانة الأخلاق

29 أكتوبر 2021
خالد حافظ/ مصر
+ الخط -

"باتمان والفلسفة"! عنوان غريب لعلاقة شديدة التباين بين اسم شخصية خيالية قدّمتها سينما الحركة والتشويق الأميركية، وبين حقل فكري شديد العمق كـ الفلسفة. ولقد وجد مؤلّفو الكتاب في هذه الشخصية الشهيرة مادّةً يمكن الاستفادة منها في شرح القضايا الفلسفية والأخلاقية التي تشغل عصرنا اليوم، وهو أمرٌ لم تعتده ثقافتنا الجادّة والمتجهّمة، وأوّل هذه القضايا هو السؤال الراهن الذي لم نجد جواباً له بعد في حياتنا العملية، أو نقاشاتنا الفكرية: هل يمكن لفرد أو لجماعة أو لشعب أن ينتقموا ممّن آذاهم دون أن يقوموا بأفعال تُخلّ بالمنظومة القيَمية للبشر؟ أي هل يمكن تجريد الانتقام من أيّ فعلٍ لا أخلاقي؟ وكيف يمكن الجمع بين السعي للانتقام، وبين القدرة على عدم القيام بالقتل؟

امتنع باتمان مثلاً عن قتل الجوكر، وهو الشخصية المقابلة له في الحكاية، وكان امتناعه ناجماً عن إيمانه العميق بأنّ إقدامه على ذلك الفعل يعني أنه قد انزلق بإرادته إلى الخندق الآخر، خندق القتَلة والمجرمين. هذا ما يقوله أحد الكتّاب المشاركين في تأليف الكتاب. تتحوّل المغامرة البوليسية المشوّقة، التي بُنيت على فكرة الانتقام، كي تخلق مشكلة أخلاقية وفلسفية تضعنا أمام أسئلة الوجود والاجتماع.

فالجوكر ــ وهو الشخصية المجرمة في مواجهة باتمان الخيّر، ولنقل إنّه العدوّ، إذا ما أردنا تكبير الدائرة ــ يقتل بلا أيّ حساب، ولا يمكن توقّع أفعاله الشنيعة البتّة. لا يرحم امرأةً، ولا يشفق على طفل، ويسعى للسيطرة على مدينة غوثام، وهي مدينة متخيّلة، مستخدماً أيّة وسيلة، دون النظر في أخلاقيّتها.

كيف يمكن الجمع بين الانتقام من قاتل وعدم القيام بالقتل؟

بِمَ يمكن أن تفكّر حين تواجه عدوّاً لا أخلاقياً من هذا الطراز؟ وإذا أضفنا إلى جرائمه العامّة، جريمةً تخصُّك وحدك، وهي أنه قتل عائلتك، أباك وأُمّك وأشقّاءك (وقد أضحى هذا النمط من القتل منتشراً بكثرة في السنوات العشرة الأخيرة في بلادنا العربية)، فما الذي يمنعك من قتله حين تستطيع أن تتغلّب عليه؟

دعونا نكبّر الصورة: ثمّة مَن يدعو ـ حين تنقلب الأنظمة السياسية، أو تنتصر الثورات ـ إلى القيام بإجراءات انتقامية أو إجراءات تمنع القيام بالانتقام. وفي كلتا الحالتين يُنجَز الانتقام تحت شعار آخر يسمّى العدالة، وقد نشأ مرفقٌ جديد بمصطلح العدالة، هو العدالة الانتقالية، وهي عدالة لا تتسامح مع مَن ارتكبوا جرائم حرب، لكنّها لا تسمح بأن يتمّ العقاب بناءً على الثأر، بل وفق القانون. وبهذا المعنى يصبح القانون نفسه من أدوات انتقام الضحايا، أو الأحياء ممّن يريدون العدالة لأمواتهم، من الذين قاموا بفعل القتل أو التعذيب.

ما الضّمانات؟ يرجّح مؤلّفو الكتاب ضماناً وحيداً هو الأخلاق. أخلاق لا تسمح لك أن ترتكب جريمةَ قتلٍ إذا كنت تريد الانتقام من قاتل.

قال المفوّض غوردون لباتمان، حين منعه في إحدى المرّات التي كاد فيها أن يقتل الجوكر من أن يفعل ذلك: "لن أسمح له بأن يدمّر حياتك". فالقتل، أو فعل الانتقام العنيف، الموازي لفعل الجريمة المرتكبة بحقّنا، يجعلنا نخسر أنفسنا، ضميرنا، أخلاقنا.


* روائي من سورية

موقف
التحديثات الحية

المساهمون