ضحايا يرأفون بضحايا

ضحايا يرأفون بضحايا

24 مايو 2021
طفل فلسطيني يحمل لعبته في بيت حانون بغزّة بعد "وقف إطلاق النار"، 11 أغسطس/ آب 2014 (Getty)
+ الخط -

مألوفٌ وبديهي أن تبحثَ الضحية عمّن يُساندها، أن تُنادي وتَنتظر من يُجيب. وفي أزماتٍ شامِلة تصيبُ البشر، مثلَ القصف والحروب، حيث تكاد تكون فرص النجاة بالنسبة إلى من هُم تحت القصف مستحيلةً، ومرتبطةً بالأقدار، يَخرج الضحايا عن اعتبارات الدنيا، ويترقّبون إرادةَ السماء.

تذهب آراءٌ للاعتقاد بأنّ الأقدار، منذ البداية، ليست في صَفِّ الذين يتعرَّضون للقصف، وإلا لما قُصِفوا، أو خُلِقوا في أوطان كلّ ما فيها، حتى الأبنية والأتربة والطيور والريح، ترجو النجاة. لا يَجدُ البشر في أوقات كهذه مَن يناجونه سِوى الله، فمسائل الأرض بتنويعاتها المختلفة، تصبحُ بالنسبة إلى من يَتعرَّض للقصف مسائل لا تعنيه. المهم أن تُرسِلَ السماء حبائل النجاة، لا القذائف وهدير الطائرات فقط. إذاً، مَن يعيش تحت القصف والأخطار، في لحظةٍ ما، لا تعني لهُ مواقف أو تشريعات وآراء البشر شيئاً، إنّه ينظر إلى ما هو أسمى في مخيّلتهِ، وأعمق في وجدانهِ؛ إنّه يتساءل أمام خالقهِ: إلهي، لماذا ترميني، مع أطفالي، وسط التهلكة؟ وقد تأسّس معتقدٌ قديم، بدءاً من المسيح، بأنّ الضحايا هم أبناء الله، كذلك تَدخّل الله لدى نبيّه إبراهيم كي لا يضحّي بإسماعيل.

يناجي الضحايا خالقهم لأنّهم يعتبرون أنّ أمرهم بيدهِ، أمام عجز البشر وضعف حيلتهم. لتبقى مسألة التعاطي مع أخبار القصف والموت في الحروب، مسألةً تعني مَن يَستَمِع إلى هذه الأخبار، مَن يَرى الصور المفجعة، والمشاهد الصادمة لأطفال نجوا مِنَ الموت مع أسماكهم وألعابهم؛ يصيرُ مفهوماً لديه بأنّ تعاطفه أمرٌ لا يَشغلُ من نجا من الموت لتوّهِ. فمن تَهدَّم سقفه الآمنِ فوق رأسهِ، لا يعنيه كيف ينظر الآخرون إلى عدالة قضيته، ولا يعنيه كيف يَتَعاطى الآخرون مع آلامهِ. هذهِ مسائل خَرج منها، ما إن اقتربَ من الموت حدّاً ليس بوسعِ من لم يقترب المسافة ذاتها، من الموتِ ذاتهِ، أن يصفه.

ترتبط مسألة التعاطف بمَن يشاهد العنف لا بمن يتلقّاه

تكادُ تكون مسألة التعاطف برمّتها مرتبطة بمن يشاهد العنف، لا بمَن يتلقّاه أو يمارسه. بمن يمتلك أدواتٍ حُرّة كي يُعبّر عن أولئك الذين تعوزهم الأدوات، وتعوزهم الحرّية أيضاً. ما بين قاتلٍ وقتيل، ثمّةَ من يشاهد المعركة، ما بين جلادٍ وضحية، ثمّةَ من يسمع ويقرأ ويؤوّل. قد ينفع اختزال الموت إلى طرفين، لو أنّه يحصلُ في غرفةٍ مغلقة أو في صحراء شاسعة. كذلك ينفع اختزال التعذيب إلى طرفين، لو أنّه يحصلُ في قاعِ بئر مظلم. لكنّ موتاً يحصلُ على الملأ، لا يمكن اختزالهُ إلى قاتلٍ وقتيل.

إنّ تعذيباً يحدث أمام الكاميرات، لا يمكن اختزاله أيضاً الاختزال ذاته. ومسألة الاختبار الإنساني بأن يستمر البشر على عهدهم بالدفاع عن الإنسانية، التي تصبح على المحكّ وقت الأزمات الشاملة مثل الحروب، مسألةٌ لا تعني القتيل لأنّه يُفكّر بخالقهِ، ولا تعني القاتل، لأنّه تَخلّى عن جزءٍ من إنسانيّتهِ. الاختبار الإنساني، هنا، يعني مَن يُشاهد ويَتفاعل ــ وهو في مأمن ــ مع ما يَرى. والتضامن مع الضحايا، يحدث، كي لا يَفقدَ البشر القيم التي يدافعون عنها، والإنسانية التي يَتنادون على أطرافها، ويُناصِرونها في كلّ الأزمنة.

أمّا في العالم العربي حيثُ تحتشدُ الآلام، ويحتشد الضحايا، حدّاً تبدو الجغرافيا سلسلةً متّصلة ومتواصلةً من العذابات، نجدُ الضحايا فيهِ يرأفون على ضحايا آخرين. والطرف الذي يجد نفسهُ عرضةً لاختبار إنسانيتهِ، يَتَّسم بسَمةٍ مُعذِّبَة، وهي أنّه عاجز، لا يملك أمره في شؤون حياتهِ وأمام حكّامه. لكنْ، وعلى الرغم من ذلك، ومرّةً بعد مرّة، يَتأكّد لشعوب المنطقة أنّ فلسطين تَخصُّهم، وأنّ صوتَها يبقى أعمق أصوات آلامهم.


* كاتب من سورية

موقف
التحديثات الحية

المساهمون