"صوت الشوارع" لسادات أنار.. سيرة موسيقى الشوارع العثمانية

04 يونيو 2025   |  آخر تحديث: 08:27 (توقيت القدس)
يوضّح الكتاب أن موسيقى الشوارع في الدولة العثمانية كانت أكثر تنوعاً مما هي عليه اليوم
+ الخط -

استمع إلى الملخص

اظهر الملخص
- يستعرض الكتاب تاريخ موسيقى الشوارع في تركيا من العهد العثماني حتى العصر الحديث، موضحاً دورها في الثقافة الشعبية رغم تهميشها من المؤسسة الثقافية الرسمية.
- يبرز الكتاب العلاقة بين موسيقى الشوارع والفضاء العام، ودور الغجر في تشكيلها، مستنداً إلى شهادات تاريخية مثل مذكرات الرحالة الأوروبيين.
- يناقش الكتاب التحديات الحديثة التي تواجه موسيقيي الشوارع في تركيا، مثل مضايقات البلديات، ويقدم شهادات موسيقيين ميدانيين، مؤكداً استمرار جاذبية موسيقى الشوارع لجمهور واسع.

في إحدى حفلاته خارج تركيا، اقترب أحدهم من عازف السنطور(آلة موسيقية شرقية) التركي سادات أنار بعد انتهاء العرض، وهمس في أذنه بشيءٍ ظنَّه مجاملة: "كنتَ تعزف في الشارع، أليس كذلك؟". 

يقول أنار إن هذه الجملة، رغم بساطتها، هزَّته من الداخل. جملة عابرة قد تُقال على سبيل التعريف أو التذكير، لكنها تُقال غالباً بنبرة تُخفي دونية مستترة. هكذا لاحظ الموسيقي سادات أنار حين سمع الجملة تتكرر على ألسنة جمهورٍ حضر حفلاته في مسارح كبرى، داخل تركيا وخارجها.

وفي ردٍّ على هذه النظرة، صار الاستعلاء الضمني تجاه موسيقيي الشوارع، وكأنهم ليسوا "فنَّانين حقيقيين"، هو الشرارة التي دفعت سادات أنار، الذي قضى ثمانية أعوام يعزف في شوارع أنقرة ثم إسطنبول، إلى تدوين مسيرته الموسيقية خلال تلك السنوات، مؤكداً أن لموسيقيي الشوارع في تركيا حكايةً تستحق السرد.

ضمن هذا الإطار يأتي كتابه "صوت الشوارع: موسيقى الشوارع من الدولة العثمانية حتى اليوم"، الصادر مؤخراً عن دار "إيلتيشيم" التركية، والذي يعدُّ من أوائل الكتب التي تتناول هذه الظاهرة الفنية في سياقها التاريخي والاجتماعي الطويل.

بدأ أول ظهور لموسيقيي الشوارع مع مطلع القرن العشرين

لا يُقدِّم أنار في هذا الكتاب مجرد سيرة شخصية، بل يعرض تاريخاً طويلاً من الموسيقى التي وُلدت في الشوارع والميادين، على الأرصفة وفي محطات القطار، والتي ظلَّت دائماً على هامش المؤسّسة الثقافية الرسمية، لكنها بقيت حاضرة في الوجدان الشعبي، بصفتها موسيقى بلا بوابات ولا تذاكر ولا نخبة. ويُعتبر الكتاب محاولةً للبحث عن جذور موسيقى الشوارع في التاريخ العثماني، وأبرز التحولات التي طرأت عليها، وعلى علاقة الثقافة بالفضاء العام، وخصوصاً في المرحلة الجمهورية.

يركِّز الكتاب على فكرة وجود جذور راسخة لموسيقى الشوارع في الدولة العثمانية، وأنها كانت أكثر تنوعاً مما هي عليه اليوم. ويرصد حضور الموسيقى في الفضاء العثماني العام، بدءاً من الفرق المتجولة في الأسواق القديمة مثل السوق الكبير وسوق طوبخانة، مروراً بفرق الدراويش وجوقات الطبول، وصولاً إلى عازفي المترو والمهرجانات المفتوحة في إسطنبول الحديثة.

يبحث في العلاقة القائمة بين هذا النوع من الفن والفضاء العام

يُشير أنار إلى أن قلَّة المصادر التي تناولت موسيقى الشوارع العثمانية ربما تعود، جزئياً، إلى النظرة الدونية التي لحقت بها تاريخياً. ولعل أبرز المراجع التي استند إليها أنار هو كتاب "الموسيقى عند العثمانيين في عيون الرحَّالة الأوروبيين" لبولنت أقصوي، الذي يعتمد على مذكِّرات رحَّالة زاروا الدولة العثمانية. ووفقاً لهذه المصادر، فقد ظهرت في القرن السادس عشر أنواع متعددة من الموسيقى الشعبية في الشوارع، اختلفت حسب أذواق سكَّان المدن والريف، لكنها عموماً كانت ترفيهية الطابع، واستمرت في القرن السابع عشر، وكان ممارسوها يجمعون المال كما يفعل موسيقيو الشوارع اليوم.

يُؤكد أنار أن الدولة العثمانية لم تكن تعادي حضور الموسيقى في الشوارع، بل كانت تستوعبها في مواكبها الاحتفالية ومراسمها العسكرية والدينية. ويتتبَّع في كتابه موسيقى الشوارع في الاحتفالات الرسمية التي كانت تُنظَّم في البلاط العثماني، مثل حفلات الأعراس، وختان الأمراء، واحتفالات رمضان، واستقبال الجنود العائدين من الحرب. يذكر مثلاً أن السلطان مراد الثاني احتفل بزفافه في مدينة بورصة بمهرجان كبير، استمر فيه غناء العازفين والمغنِّين حتى الصباح. كما يُشير إلى احتفالات الانتصارات في عهد السلطان سليمان القانوني، ويعتبر أن الموسيقى التي أُدِّيت خلالها هي الجذور الأساسية لموسيقى الشوارع اليوم.

وفي هذا السياق، يتوقف أنار عند موسيقى "المَهتران" العثمانية، وهي جوقة الموسيقى العسكرية العثمانية. ويُشير إلى أن بعض فرق المهتران غير الرسمية، التي لم تكن تابعة للدولة ولا تتقاضى أجوراً منها، كانت تعزف الموسيقى في المدن والفضاءات العامة، ويعتبر أن هذه الفرق تندرج بوضوح تحت تصنيف "موسيقى الشوارع". ويُؤكد أن مظاهر موسيقى الشوارع لم تكن تقتصر على إسطنبول، بل امتدت إلى مناطق الأناضول، حيث كانت تُقام احتفالات شعبية عند دخول غير المسلمين إلى الإسلام، ومنها مثلاً احتفال أقامه الإنكشاريون في أواخر القرن السادس عشر في مدينة إسكيشهير بمناسبة اعتناق أحد المجنَّدين الجدد الإسلام. وكانت هذه المناسبات تتضمَّن عروضاً موسيقية في الشوارع.

وبعيداً عن السياق الرسمي واحتوائه لموسيقى الشوارع، يركِّز أنار على دور الغجر في موسيقى الشوارع، وتقديم عروض الدمى المتحركة، ويعتبرهم من أبرز الفئات التي ساهمت في تشكيل موسيقى الشوارع في الدولة العثمانية وتركيا الحديثة، إذ كانوا يعيشون حياةً متجولة، ويكسبون رزقهم من العزف والرقص في الشوارع والحدائق. ويعتمد على شهادة الرحَّالة العثماني الشهير أوليا جلبي، الذي تناول الغجر الذين سكنوا حي بلاط بإسطنبول بعد الفتح، وأبرز الآلات الموسيقية التي استخدمها الغجر آنذاك، مثل الزُّرنة، والصنوج، والدُّف، والسنطور، والكمان، والچُنبُش، إلى جانب أبرز عاداتهم مثل أن يتقدَّم عازف الدُّفِّ بعد العرض نحو الجمهور لجمع النقود. يأسف أنار لكون الإسهامات الموسيقية للغجر لم تنل حقها من التقدير في الدراسات الموسيقية، ويُرجع ذلك إلى النظرة الاجتماعية المتحيِّزة تجاههم تاريخياً، تماماً كما أُهملت موسيقى الشوارع نفسها.

ورغم إدراجه لأسماء شهيرة من أبطال الأدب الشعبي التركي، مثل كَرَاجَا أوغلان، ودَدَال أوغلو، وكورأوغلو، المعروفين بوصفهم "شعراء جوَّالين" جابوا المدن والقرى، وهم يعزفون ويغنُّون وينشدون الشعر، باعتبارهم جزءاً من تقاليد موسيقى الشوارع، فإنه يعتبر أن أول ظهور لموسيقيي الشوارع بالمعنى الحديث بدأ مع مطلع القرن العشرين، على يد عازفي الأُرغن، التي دخلت إلى الدولة العثمانية في أواخر القرن التاسع عشر، وانتشرت بسرعة في شوارع إسطنبول وإزمير وسلانيك، لا سيما بين الجاليات الرومية. ومن سوء الحظ أن معظم عازفي الأرغن اضطروا لمغادرة إسطنبول، إثر التبادل السكاني بين تركيا واليونان عام 1922.

وفي معرض حديثه عن القرن التاسع عشر، يربط أنار بين التغييرات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية التي رافقت الإصلاحات العثمانية بعد دخول عصر التنظيمات عام 1839، وبين تحوُّلات الحياة اليومية والمشهد الموسيقي العام، إذ تجاوز الناس حدود الحيِّ التقليدي وبدأوا يرتادون الفضاءات العامة مثل المتنزَّهات والمقاهي والصالونات والملاهي، وأصبحت الموسيقى تُقدَّم فيها بشكل مكثَّف.

ومع انهيار الدولة العثمانية وتأسيس الجمهورية، تغيرت العلاقة مع الفضاء العام. فقد حمل المشروع الكمالي رغبة واضحة في إعادة تنظيم المجال العام وفق نموذج "حضاري" غربي، وهو ما انعكس على الموسيقى أيضاً. بدأت الموسيقى الرسمية تُدَرَّس في الكونسرفتوار، في حين نُظر إلى موسيقى الشوارع على أنه تراث شعبي أو فلكلور لا يرقى إلى مستوى الفن الرسمي. ورغم ذلك، يرى أنار أن "مهرجان البلقان"، الذي عُدَّ أول مهرجان موسيقي "رسمي" في الجمهورية، والذي أُقيم في إسطنبول عام 1935، قد ضمَّ عروضاً موسيقية في الشوارع، مما يؤكد انتشار هذه الموسيقى بين شرائح كبيرة في المجتمع.

وإلى جانب محاولات أنار في البحث عن الجذور التاريخية لموسيقى الشوارع، يتناول أيضاً الروافد الشعبية للأغاني والعبارات التي يُرددها البائعون الجوالون في تركيا الحديثة للترويج لبضائعهم، ويعتبرها جزءاً من تقاليد موسيقى الشوارع، وأن حضورهم يُمثِّل جزءاً من النسيج الصوتي اليومي للمدينة. ولا يعتمد الكتاب على السرد التاريخي فقط، بل يتضمن شهادات من موسيقيين ميدانيين، ووصفاً تفصيليّاً للأماكن التي تشهد اليوم حضوراً حيّاً لهذا النوع من الموسيقى، من ميادين أنقرة حتى ميدان تقسيم في إسطنبول.

ومن بين النقاط اللافتة، أن أنار لم يتعامل في كتابه مع ظاهرة موسيقى الشوارع بدهشة الرحالة الأوروبيين وإعجابهم فقط. ففي القسم الثاني من الكتاب، الذي خصَّصه لمقابلات أجراها مع عدد من موسيقيي الشوارع وموسيقياتها، سلَّط الضوء على قصصهم ومعاناتهم. وتُظهر المقابلات أن أبرز العقبات التي يواجهونها هي مضايقات البلديات والشرطة، كما يقول تونجاي كوركماز، أحد موسيقيي الشوارع في إسطنبول: "كانت هناك رقابة مشددة، ولم يكن يُسمح إطلاقاً بالعزف في الشوارع، وكنا كثيراً ما نتشاجر مع الشرطة عندما نعزف بوصفنا مجموعة".


* شاعر ومترجم مصري مقيم في تركيا