"صلاة القلق" لـ محمد سمير ندا.. شهود على تاريخ لم يُكتب

25 ابريل 2025
+ الخط -

استمع إلى الملخص

اظهر الملخص
- "صلاة القلق" للروائي المصري محمد سمير ندا، الحائزة على الجائزة العالمية للرواية العربية 2024، تسلط الضوء على "جموع الصامتين" في "نجع المناسي"، مكان خيالي يعكس بساطة الحياة البدائية وعزلة سكانه.
- الرواية تتناول إسقاطات سياسية على الأمة العربية، تبدأ بانفجار غامض يغير حياة النجع، وتستخدم لغة سردية غنية توازن بين بساطة المكان وتعقيد الأحداث، مشيرة إلى نكسة 1967.
- تغطي الرواية فترة 1967-1977، وتستخدم تعدد الأصوات لكشف الصراعات الداخلية، وتعيد الجائزة إلى مصر بعد 16 عاماً من فوز يوسف زيدان.

في لغة سردية خارجة من رحم الشِّعر، يُهدي الروائي المصري محمد سمير ندا روايَته الثالثة "صلاة القلق" (مسكيلياني 2024)، التي توّجت مساء أمس الخميس بـ"الجائزة العالمية للرواية العربية" (المعروفة بـ"البوكر العربية") في دورتها الثامنة عشرة، إلى "جموع الصامتين، الذين شهدوا على كلّ تاريخ لم يُكتب بعد".

هؤلاء الصامتون أنفسهم، هم من نقابلهم في مفتتح الرواية: "في البدء سطع ضوء عظيم مزّق أجفان النيام، تلاه دويّ هائل صمّ آذان الأجنّة في الأرحام، فتشكّل المكان على ضفّة الزّمان، وظلّت الأعناق ملتوية تعانق حلماً علق في سماء الأمس، وهاجساً يطوف على أسطح البيوت ويتسوّر الجدران، بينما ظلّ صوت واحد يتسلّل إلى أسماع الصامتين، فيشدّ الشعور، ويبدّل الوقائع والأمور، ويحكي عن رحى حرب دارت ولن تتوقف، محذّراً من ساعة حساب ينال فيها المتخاذلون ما يستحقون من ويلات العقاب".

وفي سطر منفصل تالٍ، ينتقل الكاتب بخبطة قلم إلى فضائه الروائي: "جرت هذه الوقائع في 'نجع المناسي'، والأحداث قد تكون مستمرة حتى كتابة هذه السطور".

بهذا المدخل الافتتاحي، يلِجُ بنا محمد سمير ندا (مواليد 1978) إلى نجعه الخيالي، مبسّطاً عالمه الروائي إلى بدائية نلاحظها في تفاصيل شخصياته وصنائعهم، فكلّهم من أصحاب الحرف اليدوية، كأنّ الحضارة نسيت النجع وسكانه، فعاشوا منعزلين عن العالم الخارجي، لتأتي كلّ شخصية مصحوبة بصفة مشتقة من مهنتها: محجوب النجار، وزكريا النساج، ووداد القابلة، وعاكف الكلاف، وشواهي الراقصة، ونوح النحال، وقبلهما المتنافسان الرئيسيان الشيخ أيوب المنسي إمام المسجد، وخليل الخوجة صاحب الدكان.

إسقاطات سياسية وإحالات إلى ما تعاني منه الأمة العربية

يمكن اعتبار المُفتتح أعلاه ملخّصاً شاملاً لأحداث "صلاة القلق"، التي يصعب تلخيصها في "حكاية" ترضي محبي "تلخيص الكتب"، إذ يبدأ هذا المفتتح بالكلمة نفسها التي يبدأ بها سفر التكوين "في البدء"، لكن هنا لا تبدأ الأمور مع "الكلمة" كما في الكتاب المقدس، بل بـ"ضوء عظيم"، تلاه "دوي هائل".

هذا الحدث المُعلن عنه بـ"الضوء الذي أعمى العيون" و"الدّوي الذي صمّ الآذان"، هو الذي تسبّب لاحقاً في "خلل حلَّ بنسق الحياة في النجع"، وأدّى إلى إصابة سكانه بمرض عجيب، حوّل رؤوسهم "إلى كتل عظمية جرداء"، بعد أن تساقطت شعورهم واختفت حواجبهم، وبالتالي فليس من الغريب أن تكون الجملة الأولى في الرواية هي: "استيقظَ الشيخ أيّوب المنسيّ صباحَ اليوم، فلم يجِدْ رأسَه بين كَتفيه".

الكاتب المصري محمد سمير ندا
الكاتب المصري محمد سمير ندا (فيسبوك الكاتب)

شاء الكاتب أو لم يشأ، تُحيل الجملة الافتتاحية هنا إلى عوالم كافكا الكابوسية، حين جعل بديله غريغور سامسا يصحو من نومه ليكتشف أنّه تحوّل إلى حشرة ضخمة في فراشه، لكن ما سيأتي من أحداث في ثنايا رواية الكاتب المصري، يلقي بالقارئ إلى عالم آخر، أبعد ما يكون عن مأساوية كافكا الذاتية، وأكثر تشابكاً وتعقيداً مما يبدو عليه، فنحن أمام مجتمع معزول عن محيطه، يضم شخصيات مختلفة، تواجه مجتمعة حالة غير معهودة تخرج الحياة عن عاديّتها، حيث الخوف من المجهول، والحيرة أمام سر هذا الانفجار. فهل هو نتيجة لسقوط نيزك من السماء؟ أم أنه صاروخ سقط بسبب الحرب الدائرة في البلاد منذ عشر سنوات؟

في محاولة لفكّ طلاسم هذا السر، يبني محمد سمير ندا عالمه الروائي في "صلاة القلق" على دعامتَين أساسيتَين؛ الأولى هي التقشّف المكاني الذي تدور فيه الأحداث، إذ لدينا النجع وسكانه الذين يعيشون داخل حدوده الرسمية، تلك المحاطة بـ: "صفّ النخيل الذي يُحدّد آخره شرق الترعة"، حيث جرى إبعاد شواهي الراقصة من شيخ المسجد عن بيوت القرية.

والثانية، وفي نقيض للأولى، هي اللغة المغزولة بعناية تكاد تصل إلى حوافّ الشِّعر، نقرأ مثلاً: "راح الشيخُ يُراقب الفلّاحين وهم يضربون بفؤوسهم الأرضَ في همّةٍ مبتورة، وعيونُهم محمرّةٌ مفتوحةٌ على أفقٍ لا يأتي بشهبٍ جديدة. التوتّر يدمغ وجوهاً سوّدتْها الشمس، والمقلُ زائغةٌ تستقرّ بعيداً عن مواضع ضربات الفؤوس، رؤوسٌ مُطرقة، وأجسادٌ انكفأت على ظلالها، وكفوفٌ مرتجفةٌ التحمت بالفؤوس حتّى تشقّقت. الناسُ لا يكادون يتبادلون التحايا وقد فرغت جُعَبُهم من الحكايات اليوميّة. انفضّت مجالس السمر، وطُويتْ ليالٍ يُمضَغ فيها التبغُ ويسبحُ فيها الأفيون في أفواه السهارى".

تلفت هذه اللغة السردية المُعتنى بمتانتها القارئ، التي قلّ أن نجد لها مثيلاً اليوم في الأعمال الروائية العربية الجديدة، خاصة مع تناقضها الجلي للتقشف المكاني الذي تدور فيه الأحداث، وهذه المتانة اللغوية التي حرص عليها الكاتب، خلقت توازناً بين عالم النجع، البسيط شكلياً والمعقد داخلياً، وبين ما وراء النص من إسقاطات سياسية وإحالات إلى الوباء، الذي لا تزال الأمة العربية كلّها تعاني منه حتى يومنا هذا، أي نكسة 1967.

تغطي الرواية السنوات العشر بين نكسة 1967 وعام 1977

تغطي الرواية السنوات العشر التي تبدأ من نكسة 1967، وصولاً إلى 1977، العام الذي يرحل فيه عبد الحليم حافظ، صوتُ المرحلة الناصرية، وهو العام نفسه الذي يعلن فيه الرئيس المصري محمد أنور السادات استعداده للذهاب إلى القدس مادّاً يديه إلى الإسرائيليين بـ"السّلام".

هنا تأتي تقنية تعدّد الأصوات، إذ يمنح الكاتب الفرصة لشخصيّاته الثماني الرئيسية لسرد واقعة النيزك والوباء، كلّ من وجهة نظره، لتتكشف في ذلك الصراعات الداخلية التي تربط الشخصيات بعضها ببعض، بدءاً من خليل الخوجة، الحاكم الفعلي للنجع، والوحيد المخوّل له بربط سكان النجع بالعالم الخارجي، وصولاً إلى الشيخ أيوب الذي يمثّل السلطة الدينية التي لم تعد قادرة على فهم الأحداث التي تجري من حولها، مروراً بالمتاهات التي تحكم حيوات ومصائر الآخرين، الذين يبدأون في التمرّد على سلطة خليل الخوجة، قبل أن تكشف لنا نهاية الرواية عن السر في تعدد الأصوات الراوية للأحداث، وكاتبها الحقيقي.

بدأ محمد سمير ندا الكتابة في سنٍّ مبكّرة، لكنّ روايته الأولى صدرت في عام 2016 بعنوان "مملكة مليكة"، وفي عام 2021 صدرت روايته الثانية "بوح الجدران"، أما روايته الثالثة "صلاة القلق" (2024) فكانت قد اختارتها لجنة تحكيم جائزة "البوكر العربية" من بين 124 رواية ترشّحت للدورة، وصل منها إلى القائمة القصيرة، إلى جانب الرواية الفائزة، خمس روايات عربية أخرى، هي: "دانشمند" للموريتاني أحمد فال الدين، و"وادي الفراشات" للعراقي أزهر جرجيس، و"المسيح الأندلسي" للسوري تيسير خلف، و"ميثاق النساء" للبنانية حنين الصايغ، و"ملمس الضوء" للإماراتية نادية النجار.

يعيد الكاتب المصري بفوزه هذا "جائزةَ البوكر" إلى مصر، بعد غياب دام 16 عاماً، منذ نالها الكاتب المصري يوسف زيدان عن روايته "عزازيل" عام 2009.

 

* شاعر وصحافي من مصر