صدر قديماً": "غرائب المكتوبجي" لسليم سركيس

صدر قديماً": "غرائب المكتوبجي" لسليم سركيس

24 يناير 2022
سليم سركيس (1869 – 1926)
+ الخط -

بعد إصدار السلطان العثماني، عبد العزيز الأوّل، التشريع الأوّل من نوعه في الدولة لتنظيم الصحافة في آب/ أغسطس عام 1865، تمتّعت الجرائد الصادرة في سورية ولبنان والعراق آنذاك بقدْرٍ معقول من الحرّيات لم يكن متوفراً لمطبوعات صدرت في سنوات سابقة وكان مصيرها التعثّر بسبب انتقادها سياسات الدولة.

لم يمضِ أكثر من عشر سنوات حتى واجهت الصحافة حملةً ممنهجة من التضييق مع تولّي السلطان عبد الحميد الثاني السلطة؛ حملة تسبّبت في إغلاق معظمها، ما اضطر صحافيّين كثراً من بلاد الشام للانتقال إلى القاهرة، حيث نقلوا خبراتهم وساهموا برؤوس أموالهم في تأسيس عدد من المطابع، ما اعتبره مؤرّخون عاملاً أساسياً في نهضة الصحافة المصرية.

من بين هؤلاء كان الصحافي اللبناني سليم سركيس (1869 – 1926)، الذي وثّق تجربته في الصحافة ــ منذ أن كتب مقالاته الأولى وهو في الخامسة عشرة من عمره في مجلّة "الجنان" التي كان يترأس تحريرها سليم بطرس البستاني، ثم عمله في صحف صدرت في بيروت وباريس ولندن والإسكندرية ــ في كتابٍ بعنوان "غرائب المكتوبجي" صدر عن "مطبعة السلام" في العاصمة المصرية سنة 1896.

منع المكتوبجي نشر مقالات لشخصيات نسائية في الجرائد

يفتتح المؤلّف كتابه بثلاثة أبيات للشاعر العباسي سليمان بن يزيد العدوي يقول في آخرها": "يا للرجال لداءٍ لا دواءَ له/ وقائدٍ ذي عمىً يقتاد عميانا"، مدوّناً عشرات الروايات التي جمعها حول المكتوبجي ــ مراقب الجرائد والصحف أيام العثمانيين ــ كما درج على تسميته آنذاك.

ويشير سركيس إلى أن سورية (بلاد الشام) كانت أقدم مكان ظهرت فيه الجرائد السياسية والعلمية في العهد العثماني، حيث الحرّية مطلقة لجرائد بيروت ولا مراقبة عليها، ودام الأمر على ذلك الحال إلى أن رأت الحكومة ضعفَها أمام تعدّد الصحف وميل الشعب السوري إلى المطالبة بحقوقه على صفحاتها.

الصورة
غلاف الكتاب

ويُجمل سركيس نكباته التي توالت عليه، فهو، الذي وُلد في بيروت ، صار بحكم مولده من رعايا الدولة العثمانية في فترة تراجُعها، كما أن أهله أرسلوه إلى المدرسة حيث تلقّى شيئاً من العلم استحقّ أن يُشفق عليه الجاهل، كما يقول، مشيراً إلى أنه تعلّم الإنكليزية التي مكّنته من الاطّلاع على مؤلفات تدعو إلى الحرّية والتقدّم؛ ثم عُهدت إليه، بعد تخرّجه، إدارة تحرير جريدة "لسان الحال" مدّة ثماني سنوات، لكنّه لم يتمّكن من ممارسة حرّيته في إدارتها؛ وبعد ذلك ارتحل إلى أوروبا فازداد تقديراً للحرّية، لكنْ ما لبث أن عاد إلى بيروت حتّى خضع من جديد لرقابة المكتوبجي.

يتتبّع سركيس عملية الرقابة منذ أن يكتب محرّر الجريدة العثمانية مقالات جريدته وتُرتّب حروفها وتُصلّح أغلاطها حتى تصير جاهزة للطبع والتوزيع، فتبعث الإدارة بنسختين منها إلى المكتوبجي، وعلى المطبعة والمحرّر والعمّال أن ينتظروا رجوع المسوّدة المذكورة التي تُرسَل عادةً عند العاشرة صباحاً، قبل أن يبدؤوا الطبع بعد رجوعها في الثالثة أو الرابعة عصراً، لتعود وقد حُذفت منها عبارات ومقالات يضع المحرّر بديلاً عنها لتظلّ تروح وتجيء بينه وبين المكتوبجي حتى يوافِق الأخير على المسودة النهائية بوضع توقيعه الذي لا يحول أيضاً دون إيقاف الجريدة بعد طباعتها إذا ما صدر أمرٌ بذلك من الآستانة.

سورية كانت أقدم مكان ظهرت فيه الجرائد في العهد العثماني

ومن الغرائب التي يوردها الكتاب، تغييره كلمات مثل "مرادي" إلى "حبيبي"، و"خلعت" إلى "تركت"، و"خليع" إلى "بدون"، و"عذول" إلى "رقيب" في نشر خبر نشرته جريدة "المشير" في عددها السابع والثلاثين عن أبيات أنشدها عبده الحامولي في حفل أقيم في حضرة السلطان بإسطنبول، حيث اعترض المكتوبجي على مفردات لم يعترض عليها السلطان ذاته.

وفي إعلان نشرته جريدة "المصباح" يأتي فيه أن "قطعة الأرض المشتملة على بيت مؤلّف من أربع أوَض (غرَف) ومطبخ ودار ملك محمد علي الطرابلسي معدّة للأجرة، وعلى الراغبين مخابرة صاحبها"، ما كان من المكتوبجي إلّا أن رفض استخدام كلمة "ملك" التي لا تُستخدم من وجهة نظره إلّا للحديث عن السلطان، ليصبح الإعلان: "إن دار الإمبراطور محمد علي الطرابلسي معدّة للإيجار"، ولم تفلح كلّ المحاولات لثنيه عن جهله.

وعلى غرارها، منع الرقيب نشر أخبار عن شخصيات تحمل كُنىً مثل "سلطاني" و"ملّوك" واستبدلها بـ"سلطا" و"مالوك"؛ أو حذفَ عبارات رثاء لأحد أفراد عائلة "كرم" لأنه رأى أن ذلك من شأنه أن يُبكي القرّاء وأن هذا ليس من واجبات الصحافي؛ وكذلك كلمة "الحركة" في كتاب ليوسف حرفوش تضمّن أمثالاً باللغتين الفرنسية والعربية، ومنها مثل "الحركة فيها بركة" لأنه اعتبر أن الحركة تفيد "الثورة".

ويذكر المؤلّف أن صحف بيروت نشرت مقالات لشخصيات نسائية قبل أن يوقف المكتوبجي نشر أيّ مقال موقّع باسم امرأة، لأن "ذلك يفتح عقولهنّ أكثر من اللازم". وفي طرفة أخرى تتعلّق بمنعه ذكر كلمة "مدرسة" وتغييرها كلّما وردت إلى "مكتب"، أن الرقيب استبدل مدينة مدراس في مقال حول الهند إلى كلمة "مكتب" أيضاً!

في خاتمة الكتاب الذي عدّ أربعاً وخمسين غريبةً، يرفض سركيس الاتّهامات الموجّهة إليه بالخيانة والرغبة بالانتقام من المكتوبجي، بقوله "إنني غبر خائن، فصديقك مَن صدَقك لا من صدّقك. وإنني لا أطعن على دولتي حبّاً بسواها بل غيرةً عليها ورغبةً في إصلاحها، وإن حكومة بيروت تعتبرني، وإنني كنت في بلادي محلّ رضى الحكّام وثقتهم".

المساهمون