صار الحقلُ بعيداً عن أهله

صار الحقلُ بعيداً عن أهله

22 نوفمبر 2021
جزء من لوحة لـ أنس البريحي/ سورية
+ الخط -

تدفعينهم بيمينك

هؤلاء شُبّانكِ وفتياتُكِ أيّتها البلاد 
منظرك البهيّ على الضفاف والمنحدرات
وحماسك الفيّاض في الشارع حين تشيخين
إنّهم السواعدُ التي تدفع عَرَبَتك المعطّلة على ناصية التاريخ
والأظافر التي تخمشين بها 
ووقودُك في المعارك، سريع الاشتعال والانطفاء. 
هؤلاء أبناؤك وبناتك أيّتها البلاد القاسية
الذين يغادرونك دامعين
رغم علامات السِّياط على ظهورهم 
والكوابيس التي تُطاردهم في المنامات 
الذين يسيرون في وحول هذا العالَم
وتنهال عليهم الهراوات
ويتحوّلون إلى كائنات هلاميّة
شفّت من الأسى
وشابت من الهمّ 
وكبُرت في العمر قبل أوانها
لأنها حاولت تغيير هذا العالَم الذي لا يتغيّر. 
إنّهم ضوء عينيك في المفازة المُعتِمة
أيّتها العجوز الخرِفة 
التي تخاف من تغيير مكان الأكواب والملاعق 
وتنظر بشكٍّ إلى كلّ مَن يتكلّم عن الغد
وتحطّمه بالرصاص والسواطير وقلع الأظافر 
فيما تستسلم للجزّارين وقطّاع الطرق 
دون أية مقاومة.
هؤلاء ضحاياك الذين يسامحونك 
ويبحثون عن أيّ شيء يُذكّرهم بك في المنافي
أو يحمل رائحتك
حتى لو كانت رائحة محروقات وقمامة وطعام عَرَبات.
هؤلاء نُشَطاؤك وناشطاتُكِ
المختلفون والمتنوّعون
الذين تريدينهم نسخة واحدة
إنهم يحاولون انتشالك من تحت بسطار الجنرال وعصا الشيخ
وأنت تدفعينهم بيمينك
إلى الخنادق والسُّجون والسَّفارات وخطوط الكوكائين والمعالجين النفسيّين
يتحدّثون بعيون مطفأة
ويشعرون بالذنب إذا مرّوا بلحظة فرح.
إنهم يضعونكِ وشماً على الكتِف 
أو قلادةً في الجيب 
أو صورةً على سطح المكتب
وأنتِ
تشعرين بالعار
إذا ذُكرتْ أسماؤهم. 


■ ■ ■


يموتون ارتجافاً 

قِفارُكِ مليئةٌ بالعطاشى 
بالخارجين شُعثاً من القرى والحقول
بالجلّابيات والبراقع
بالحطّات على الرؤوس 
بالقشب على اليدين 
بأطفال لهم خصلٌ شقراء 
لا يميّزون البرد إلّا حين يموتون ارتجافاً.
...
قِفارُكِ مليئة بالأشقياء
الذين يعرفون أسماء المهاري وطوالع النجوم
الذين أسكتهم الضَّيمُ وفرَمَهم حديدُ السنابك
والذين تُصفّى بأرواحهم حساباتُ العالمين. 
...
الصخور مُتّكَأُ السَّهارى 
والنار تلتهم ثياب القتلى وأشعار الغائبين 
وقِفارُكِ تمتلئ بالمغلوب على أمرهم 
يرون مساقط الشُهبِ خلف الجبال من مقعدٍ خفيض
ويرجمون صفحة الماء بالأحجار الدامية. 


■ ■ ■


مَضايا

ها أنت أيّتها الوديان الخفيضة الخضراء 
وديانُ البنفسج والتفّاح 
والمياه الدافقة إلى الحواضر
تشحبين في أوائل الصيف.
وثمارُك التي تتدحرج على المنحدرات
يدوسها الجنود الراكضون إلى الغنائم.
الثمار التي حال القنّاص بينها وبين أهلك الجائعين
تهوي كالعبَرات التي ليس ثمة مَن يهتمّ لأمرها منذ حين.
...
ستسطع نجوم هذه الليلة على المنازل المطفأة 
وتهمي المياه بعيداً عن سواعد النساء
وتهتز أشجار الصفصاف بنسائم الربيع 
وتتدحرج الثمار نحو أحذية الجنود الدامية.
...
لقد صار الحقلُ بعيداً عن أهله الراحلين ــ
لن يطلب الفتى تفّاحةً حين يجوع.


■ ■ ■


سيرة النهر الدامي

خَلَونا إلى النهر في غمرة البحث عن الماء الدافق 
قبل مئات السنين 
بنينا بيوتاً من الطين على ضفّتيه
وزرعنا نخلاً في الباحات وورداً على بيبان البيوت...
كان النهر وَبالاً في الحالتين: حين يفيض وينحسر
ثم دخل بجسارة في الكلمات والمعاني والأهازيج والأحلام 
روّينا في بداية الأمر، ثم رفعنا له الرايات البيضاء 
سيوفنا مثلومة في لقاء الماء 
وأهازيجنا انشطرت
بين بهجة الغزَل على ضفافه
حين تذهب الفتيات بالجرار،
والحزن على الغارقين فيه 
حين تُرى الجدائل طافية في الصبيحة.
...
 الفرحُ رصاصٌ في الهواء 
والحزن عصائب على الرؤوس.
...
صار للنهر سلطانٌ على الأفئدة
أوسع من سلطانه على المحاصيل.
..
أيّامُنا صاخبة بالضرب على الدفوف 
والشّهُب تتوالى أمام الجالسين على الصخور النائية 
والأقمار بُدورٌ على صفحة الماء 
والعبّارون يجمعون حطام مراكب الهاربين.
...
السماء تهدر بالطائرات 
والدماء التي تبدأ رحلتها في الرقّة
 تخرج خثرانة من فم الزاب.


■ ■ ■


مفرمة أصابع الأنبياء

أيّتها الخِلجان والشواطئ 
والرياح التي تضرب الموج بالمَصدّات 
أيتها الرافعات الثقيلة
والمدن التي نعبرها أشباحاً من فيض الخوف 
والشرطة التي تقف على النواصي بالهراوات والبواريد 
والفرقاطات التي تعبر رويداً 
والطائرات الهدّارة 
واللوحات الإعلانية على الناطحات 
ومقامات الأولياء في البوادي
والصغار النيام على الرصيف 
والشبّان الذاهبون إلى المحرقة
والجدائل الطافية في المتوسط 
والأنظمة الصاعدة على الحطام 
والبلاد المخطوفة الأنفاس 
والبريد البطيء
والمشافي التي لا تفتح الأبواب 
والأناشيد والأعلام والتحية العسكرية 
والمحملقون في الشاشات والمرايا؛ 
أيها المصابون بالبارانويا والاكتئاب
والخائفون من المستقبل وانقطاع المدخول؛
أيتها الحضارة البشرية التي تتقدّم كقطار سريع 
فوق الحصى والجماجم
لقد حاولَ مئات الأنبياء والشعراء
إيقافَك 
قبل آلاف السنين 
وانهرستْ أصابعهم جميعاً 
تحت عجلاتك الفولاذية.
أيّتها الحضارة القاسية
لقد رمينا شبابنا قميصاً دامياً على أعتابك 
وصفّحنا أنفسنا بالفولاذ حتى لا نتهشّم.
إننا نعبر المحيطات بسُتَر النجاة التي تلمع تحت ضوء القمر
آتين من حلب وصنعاء والموصل وبنغازي وقندهار
متورّمين من أثر السِّياط والشظايا ولكَمات الجندرما 
بأسنان مُهشّمة 
ونفسٍ مخطوف 
وعيون ذاهلة 
بموليّاتٍ حزينة نردّدها في القارب المطّاطي
آملين أن ندخل في دورة الإنتاج
وتتقوّس ظهورنا خلف الآلات والمكاتب 
أيّتها الحضارة التي ترتدي معطفاً من الفرو
إنّنا نقدّم لك أعمارَنا هدايا وأعطياتٍ فاخرةً 
بصناديق الموزاييك العتيق ــ
لماذا تستخفّين بها 
وتركلينها بهذه القسوة
كما يركل الغازي
ثمار المُستعمرات؟


* شاعر وصحافي سوري مقيم في كندا. أصدر ديواناً بعنوان "النجم أوضح في القرى"، وهذه النصوص جزءٌ من كتابه القادم.

نصوص
التحديثات الحية

المساهمون