استمع إلى الملخص
- استشهد محمد، تاركًا وراءه حزنًا عميقًا في قلوب أسرته وأحبائه، وذكريات لا تُنسى عن براءته وإيمانه العميق، ليكون جزءًا من تضحيات شباب غزة الذين لم يرضخوا للمحتل.
- الحزن على محمد والشهداء في غزة يمتزج بالفخر والعزيمة، مع دعوات لإنقاذ الأرواح البريئة في ظل الظروف القاسية التي يعيشها أهل غزة.
وجهه وضّاءٌ ويدُه بَركة الأرض في قلوب أصحابها. كان محمّد، ابنُ أخي الأستاذ عادل، شابّاً يافعاً، كانَ الحُبّ في قلب أبيه وأمّه. كان دمثاً وصاحب خُلق عظيم. لم يقُل الكثير حسبما رأيت، لكنّه كان موجوداً في قلوب أهل الحارة والناس كقبس من نور.
لم ألتق بمحمّد كثيراً، لأنّي لا أعيش في غزّة، ولربّما لم يكن قد وُلد حين غادرتها للدراسة في بيرزيت بالضفّة الغربية، لكنّي حظيت بساعة ظهرية حين جلس بجانبي قبل خمس سنوات أثناء زيارتي الوحيدة لغزّة منذ حوالي عشرين سنة. رحتُ بعفوية أسأله عمّا يدرس في الجامعة، وقال إنّه يدرس الفقه والشريعة الإسلامية. سألتُه إن كانت هناك جوانب فلسفية لهذه الدراسة. ولربّما السؤال لِمن هو من هناك فيه نوعٌ من التجنّي على دراسة مؤسَّسة على النصوص وما يشعّ منها من أحكام وسلطات. قال بلُطف إنّه يدرس الفقه والأحكام.
كان حواراً قصيراً، لكنّه ترك أثراً على هيئة تردّدات وأصداء، أتذكّرها وأستأنس بها وسأستأنس بها الآن أكثر. فها قد استشهد محمّد، وذهب الوجه البريء والطلّة المرصّعة بالإيمان، الخاشع في حضوره، والمؤمن في قلبه، والزاهد في ما عنده وفي ما سيأتي. شيء ما ممّا قاله أبوهُ يوماً بقي معي، فمحمّد يعمل أشياء، "في يده برَكة، ولدٌ شاطر".
ربّما لم يكن محمد قد وُلد حين غادرتُ غزّة للدراسة في بيرزيت
أحياناً أحسّ أنّني أصداء للآخرين الذين مرّوا عليّ. والمرور لا يعني التغلغل، فكم جلستُ مع أناس، ولكن غاب حضورهم عنّي. المرور هو محمّد وأشخاصٌ آخرون فيهم بَركة القلب وصفاء النيّة وحسن الخلق وسعة الصدر. أرواح لها صدى، قصرَ الجلوس أم طال.
استشهد محمّد، ابن أخي، ابني. مدٌّ من امتدادات الدم في العروق، ونبرات القلب، وتجلّيات الروح. استشهد مع ابن عم آخر لا أتذكّر أين رأيته، يحيى الشاعر. رفاق درب، وأصحاب عزيمة تنتمي لثلّة من الصادقين مع أنفسهم ومع براءة ما يفعلون أمام أحقر قوّة وأغدرها. شبابٌ سالت دماؤهم على أرض لم يرضخوا للمحتلّ الغازي فيها.
شيءٌ ما بقي يدقّ في دخيلتي حين رأيتُ الخبر، يقتلعني من نفسي. هو الحزن، والفقد، والحسرة، والقلق على أُمّه نجوى، أمّ عبد الله، وأبيه أخي، وأخته ياسمين، والأُسرة كلّها. من سيصمد وكيف أمام زلازل القدر على هيئة الفناء والطامّة الكبرى.
صوتُ أبيكَ بالأمس يهمس في أذني: "سلّمنا أمرنا لله"، وهو يحرسك بالدعاء والحبّ والدموع.
هو الحزن عليك والشوق إليك يا محمّدنا الشهيد، يا حبيبي، وعلى شهداء غزّة، على المعلّم الذي فقد أُسرته في النصيرات، وعلى البطل الدكتور حسام أبو صفية رئيس "مستشفى كمال عدوان" في بيت لاهيا وهو يناشد الإنسانية الصمّاء لإنقاذ مرضاه ومستشفاه، وهو العزّة والافتخار والصبر والحُبّ والعناق الأدفى مع أرواح كلّ الشهداء في غزّة وعموم فلسطين.
* كاتب وأكاديمي فلسطيني مقيم في لندن