"شامة سوداء أسفل العنق" لجهاد الرنتيسي: زمنٌ فلسطيني مضى ولم يَمضِ

04 ديسمبر 2024
يحضر البطل من خلال تقنية التناوب في السرد والتشظّي ذاتها
+ الخط -

استمع إلى الملخص

اظهر الملخص
- تتناول الرواية حياة جواد الديك، الشاب الفلسطيني الذي يعيش حالة من القلق بعد انشقاقه عن حركة فتح وانخراطه في تنظيم سري، مما يعكس الصراعات السياسية والاجتماعية للفلسطينيين في الكويت.
- تستعرض الرواية تجربة الفلسطينيين في الكويت قبل وبعد عام 1990، وتتناول العلاقات الاجتماعية والغرامية المتشابكة مع القضايا السياسية، مما يبرز التحديات وفقدان الإيمان بالنضال.
- تلعب الشخصيات الثقافية والفنية دورًا مهمًا، مثل الفنانة فانيسا ريدغريف، وتسلط الضوء على الأبوّة الوهمية لجواد الديك، مما يعكس الصراعات الداخلية والخارجية.

يسوقُنا بطل رواية "شامة سوداء أسفل العنق"، جواد الديك، إلى عوالمه (يستخدم الروائي جهاد الرنتيسي الفعل ساقَ مع المرأة، كمثل: ساقَها الى الفراش، الصيغة التي تتكرّر في كلّ مرّة يتطارح العشيقان الغرام، صدمة استخدام الفعل تكمُن في دلالته الذكورية، واقترانه بالإبل والحثّ على السير)، نُرافقه، الديك مع لَمْس حادّ لحالة القلق واللّايقين وشبه الحيادية التي يعيشها، ذلك الشابُّ الفلسطيني طالب الفلسفة في "جامعة الكويت" والعضو في تنظيم يُمارس نشاطه سرّاً، بعد أن انشقّ مع رفاق له عن حركة فتح.

وكما في أسلوب كتابته المُميّز لرواياته السابقة، هنا أيضاً في روايته الجديدة الصادرة عن "المرايا للثقافة والفنون" في القاهرة، التناوُبُ في الرّوي ولأزمان مختلفة، وعلى القارئ أن يُمسك بالخيوط المتوازية للشخصيات المختلفة كي لا تفلت منه في الفقرة الواحدة، وأن يمسك بالإحالات، إذا ما كانت تعود للأشخاص أو الأشياء أو الحالات. وهنا تلعب الضمائر في اللغة دوراً رئيسياً وهامّاً. أسلوب رشيق مُتعب سريع، ومضلِّل في بعض الأحيان. ينبغي التأكيد أن الديك لا يعبّر عن القلق الذي يعيشه بلسانه، إنما يتولّد الإحساس به عبر تقنية التناوب في السرد والتشظّي ذاتها.

حياة البطل انعكاسٌ لصراعات سياسية واستبدادات شهدها

يُحقّب الرنتيسي تجربة الفلسطينيّين في الكويت إلى ما قبل وبعد 1990، ويواصل عبر شخوصه، متنقّلاً ما بين الكويت، وبيروت ودمشق، ومن ثمّ عائداً إلى عمّان، حواره الذي لم ينقطع مع سعد الخبايا، الكنية المرادفة للخفايا التي نفترض سلفاً نقيضها. وسعد الخبايا هو الإعلامي الفلسطيني الذي تستعرض الرواية جانباً من حياته بعد اضطراره إلى مغادرة الكويت لانتهاء صلاحية جواز سفره اليمني. لا يخفي الحوار عاطفةً، من تفاعل (تطابق واختلاف)، وفاء وافتقاد. يتصارع خلالها التوثيقي مع الإبداعي. لذا تتطلّب تلك المساحة التي يتركها الروائي للتخيُّل والحدس جهداً مُضاعفاً ولا ريب.

دخول جواد الديك هذا المعترك السياسي يفترض أيضاً فهماً للمرحلة ضمناً، بكل انقساماتها وإخفاقاتها. وإدخالنا في هذه الأنفاق يعود ثانية إلى ثقة الروائي بقدرة القارئ على الخروج منها.

العلاقات الاجتماعية والغرامية التي تسود الرواية إن كانت على مستوى الفهم التقليدي حيث ثنائيات الصحّ والخطأ والخير والشرّ وإلى ما يرقى لكلمة النضال، المقاومة والواجب الأخلاقي والفكري، فالحُكم على النتائج سيكون من خلال ربط السلوكيات والالتزامات الأخلاقية والخروج بنتيجة بديهية مُحبطة بالضرورة. على المستوى الوجودي لا يكون بسْطُ هذه العلاقات إلّا لشريحة من ضمن شرائح المجتمع الذي لا يختلف عن باقي المجتمعات ضمن شرط تاريخي ما، من حيث الدوافع، النوازع والرغبات، وبالتالي يكاد المشهد يتكامل باعترافاته الموثّقة وبنقل صورته السردية الخالية. تفسير النتيجة بكلا الحالتين، سواء الثواب والعقاب، أو الحصيلة النهائية لوجوده هو فشل الثورة، الاعتكاف وفقد الإيمان بالنضال.


في مديح فانيسا ريدغريف!

نجد في الرواية أسماءً صريحة لقياديّين فلسطينيّين وكُتّاب وأكاديميّين أقاموا أو عملوا في الكويت التي احتضنت حركة فتح منذ تأسيسها. كذلك مرّت بها شخصيات ثقافية وفنية، عربية وعالمية عبر مؤتمرات أو لقاءات داعمة لفلسطين. من ضمنها الفنّانة الإنكليزية فانيسا ريدغريف، التي زارت الكويت في نيسان/ إبريل 1979 واستقبلها ولي العهد، حينها، الشيخ سعد العبدالله الصباح. لقاؤها أعضاء حركة فتح أحد أهمّ خطوط الروي المتوازية. 

تلعب الضمائر دوراً رئيسياً في أسلوب رشيق ومُتعب في آن واحد

وقد تكون الرسائل المتبادلة بينها وبين سعد الخبايا، عدا عن جمالية توظيفها، الخيط الناظم لكلّ خرز العمل. مادة كان يُمكن اختصارها بعض الشيء، لولا طابعها الموثّق لحقائق يجهلها العربي، ويُحاول الآخر طمسها أو تزييفها. متابعة حثيثة للأفلام واللقاءات والمقالات الصحافية وآراء الآخرين التي تخصّها. يجري احتفاء الرواية بها، من ضمن رغبة أو توصية حرَصَ الراوي على تنفيذها بصدد كتابة تجربة الفلسطينيين في الكويت. ليس فقط لموقف ريدغريف حيال القضية الفلسطينية والتنديد الصريح بالكيان الصهيوني وعدم مساومتها بالتالي، بل لالتزامها الإنساني، لصلابتها ولثوريتها. وقد وُصِف حفل نيلها الأوسكار بسياسيته الأشدّ صُراخاً في تاريخ الأكاديمية. ولا يخفى عن القارئ الانحياز بالروي في استعراض شخصيتها وأفكارها، بل حتى في وصف ذوقها في الملابس، ولضحكتها "الخجولة"، ومقارنتها بنساء اتحاد المرأة الذي يكشف عن نقده له "كاريزما فانيسا وكوميدية نساء اتحاد المرأة". 


وهْمُ الأُبوّة

يقوم جواد الديك اللّابطل بدور الكاشف للحقائق المسكوت عنها. الأخطاء التي ارتكبتها الثورة عبر قيادييها بموازاة سيرته الشخصية، بما فيها قراراته التي اتخذها مرّة مختاراً ومرّة مُرغماً، وفق ظروف سلسلة الهجرات القسرية للفلسطيني. ومن ضمن علاقاته الشخصية، وبالمرأة تحديداً يتوضّح جانب الاختلال ما بين جواد الديك الذي كان يعوّل عليه لأن يرتقي في التنظيم، وسرعان ما سيتسلم مهامّ كُبرى ويصبح قائداً، وبين جواد الشابّ الذي يحتلّ "الظمأ" الجنسي تحديداً جزءاً كبيراً من العلاقتين اللتين عاشهما. علاقتان تُختزلان بالفراش، ولا تخلوان من المغامرة والعبث، الأولى مع امرأة متزوّجة تكبره بالسنّ، والأُخرى شابّة متزوّجة أيضاً تقرّر الاحتفاظ بالولد الذي تؤكّد له أنه ابنه، من دون إثبات عدا "أسهبتْ في وصفها لأوجه الشبه". يظلّ الديك عالقاً بأبوّته الموهومة لسنوات، في قبوه في مخيم اليرموك، يعيش فراغاً، هو ثمرة بيع الوهم وفق ما شبّهه سعد الخبايا، الذي كان يشير فيه إلى القادة في خداعهم الناس.

جهاد الرنتيسي - القسم الثقافي
جهاد الرنتيسي، في خان الخليلي بالقاهرة


لئلّا ينفرط العقد   

تحكّمت بمصير جواد الديك استبداداتٌ شتّى، انشقاقات، مساجلات ما بين الفصائل، خيانات، مصالح شخصية وزعامات صغيرة انتهازية. اختلف مع رفاقه ولم يظهر حماسة لفرصة مطروحة أمامه للسفر وطلب اللجوء، كذلك لم يرغب في عودته إلى الكويت التي كانت ستُعمّق من إحساسه بنفيه. هرب من كلّ أشكال السلطة، القادة الأصنام كما وصمهم، والشِّلل الثقافية (في النص إشارة إلى الشاعر محمود درويش وقيامه بدور الوسيط ما بين المنشقّين وعرفات)، والأب ربّ العائلة، كلّ هذا جعل مقدار اختزاله لحياته هائلاً.

رحلة طويلة شاقّة، وكأنما في لهاث خشية أن يسقط من الذاكرة المحفوظة ما يأمل أن يضيف حجارةً أو وتداً. نُطبق الكتاب وفي بالنا -عدا متعة قراءته- فكرة أن الرنتيسي قدّم إلينا قراءة صريحة لوجه المرحلة التي مرّت، ولكن ما هو وجه المرحلة التي نعيشها؟ كثيرٌ من مرارة، قليل من أمل. الكثير الكثير من التمزّق والقليل القليل من اليقين.

يقول ماركس: ينبغي تغيير الواقع، فلا يكفي تفسيره. ما التغيير الذي حدث؟ ربما في تحوّل المسار لجواد الديك، في تلافي  خراب روحي، وجسدي ومادّي، لا يُمكن ألّا يلحق به عبر هذه التجربة، ولا يُمكننا هُنا إلّا أن نتفاءل به، ونضمّه إلى الإيجابي في هذه التجربة. 


* كاتبة ومترجمة عراقية مقيمة في كوبنهاغن
 



بطاقة

باحث وروائي من مواليد عام 1966 في قرية رنتيس بالقرب من رام الله. أنهى مراحله التعليمية في الكويت، وعمل في صحف عدة كويتية وأردنية وعربية. صدرت له في الرواية: "بقايا رغوة" (2021)، و"خبايا الرماد" (2023) عن "دار البيروني" في عمّان، و"شامة سوداء أسفل العنق" عن "المرايا للثقافة والفنون" في القاهرة، وكتابا "روائيون في متاهة الشرق" (2017) عن "دار ابن رشد" في القاهرة، و"الترانسفير الثالث" (2003) عن "المؤسسة العربية للنشر" في بيروت، إلى جانب نشره قصصاً قصيرة في عدد من الصحف والمجلّات الكويتية.

المساهمون