شاعر أُُممي وقصيدة عابرة للحدود

شاعر أُُممي وقصيدة عابرة للحدود

25 اغسطس 2021
في مقهى تريستِه
+ الخط -

عاش جاك هيرشمان الذي رحل الأحد الماضي، حياة صاخبة تبدأ من الشارع وتنتهي إليه، سواء بمشاركاته التي حصر لها في احتجاجات مؤيدة للقضية الفلسطينية وحركات التحرّر حول العالم، أو في قراءاته الشعرية على الأرصفة، أو في مناظراته في المقاهي والبارات منافحاً عن آرائه في ضرورة تغيير الوضع السياسي الراهن.

دفَع الشاعر الأميركي (1933 – 2021) تكلفة باهظة لقاء مواقفه، كان بداياتها طرده من وظيفته كأستاذ للأدب في "جامعة كاليفورنيا" سنة 1965، بسبب تحريضه طلبته لرفض التجنيد العسكري للانخراط في الحرب على فيتنام، كما لم يجد ناشرين لمؤلّفاته أو اعترافاً من قبل المؤسسات الثقافية التي تجاهلته طويلاً بينما كانت قصائده تنتشر خارج الولايات المتحدة.

ترك هيرشمان مدينته نيويورك باكراً، وهجاها تكراراً بوصفها أحد مراكز الرأسمالية التي اختار تحدّيها والتخلّص من استلاب الحياة المعاصرة، إذ سكن منذ السبعينيات في غرفة فوق "مقهى تريستِه" في مدينة سان فرانسيسكو، وتبنى نمطاً بوهيمياً مفضّلاً العيش بين الناس حتى النهاية.

دفَع ثمن مواقفه عبر 60 عاماً من الشعر والنضال وبقي مبتسماً 

كانت مواقفه واضحة وحادّة كما عبّر عنها قبل عدّة سنوات بقوله: "يجب أن تفهم هذا الأمر بوضوح شديد ودقّة. لقد قادنا العالم الرأسمالي بعد سقوط الاتحاد السوفييتي، ثم أحداث 11 أيلول/ سبتنمبر، بناء على منظومة من الأكاذيب. قالوا لنا إن هناك أسلحة دمار شامل (يقصد ذرائع الحرب على العراق عام 2003)، لكن تلك كانت كذبة. نحن نعلم الآن أن الناس الذين يحكمون هذا البلد مليئون بالأكاذيب. وهذه الأكاذيب تخلق كل شيء نخاف منه نحن كشعب".

لم يفصل صاحب كتاب "كلّ ما تبقى" بين قصيدته وبين الشأن العام، والتي يشكّل التمرّد والمقاومة، ورفض أيّة وصاية أو سلطة، مضامينها الأساسية التي يتحدّث بعفوية وبساطة في الفيلم الوثائقي الذي قدّمه المخرج ماثيو فيوري عام 2010 بعنوان "الشاعر الأحمر" بدءاً من القصة التي كتبها في التاسعة عشرة من عمره وأرسلها إلى إرنست همنغواي، حيث ردّ عليه الأخير "لا يمكنني مساعدتك يا فتى. أنت تكتب أفضل مما كنت أفعله عندما كان عمري 19 عاماً". قام هيرشمان ببيع الرسالة إلى إحدى الصحف المحلية واشترى بثمنها سيارة.

أراد الاستماع إلى العالم كلّه، وإلى قضايا المحرومين فيه، كما يروي الفيلم، وهو ما دفعه إلى تعلّم تسع لغات وترجمة عدد من الكتب عنها، ويوضّح أيضاً فهمه الخاص للماركسية التي اعتقد أنها توصله إلى جوهره الإنساني كما يقول: "لم أولد شيوعياً، بل أنا لست شيوعيًا. لقد شكّلتني الأشياء التي رأيتها، وتلك التي درستها، والأشياء التي شعرت بها بشكل طبيعي".

وُلد هيرشمان لعائلة يهودية من أصول روسية، وحاز درجة الدكتوراه في الأدب من "جامعة إنديانا" عام 1961، وعمل أثناء دراسته الجامعية محرّراً في وكالة "أسوشييتد برس" ثمّ مدرّساً جامعياً قبل أن يُطرد من الوظيفة بسبب معارضته حرب فيتنام.

يكتب هيرشمان في مقدمة أولى مجموعاته الشعرية (1960) "مراسلات الأميركيين": "الشعر ليس مجرّد وسيلة لقول شيء ما؛ إنه طريقة نظر"، مشيراً إلى أن الشاعر الحقيقي يضفي أهمية على اللغة بناء على رؤيته من خلاله وطريقة استخدامه لتراكيبها ومفرداتها.

رؤية مبكرة للشعر صاغها صاحب كتاب "عتبة لا نهاية لها"، حيث تتعدّد مرجعيات قصيدته من مصادر تاريخية وتوجّهات فكرية وسياسية تبرز بحثه واطلاعه المعمّقين، ممزوجة بلغة عاطفية مؤثرة تعكس أسلوبه الراديكالي في التفكير ومواجهة النظام، واندفاعه الحادّ نحو الحبّ، تتملّكه رغبة وشغف حقيقيان في تغيير العالم.

 

آداب وفنون
التحديثات الحية

المساهمون