سهيل القش: في إعادة فحص المعرفة الاستشراقية

سهيل القش: في إعادة فحص المعرفة الاستشراقية

16 نوفمبر 2020
سهيل القش من محاضرة سابقة في "المركز العربي"، الدوحة 2020
+ الخط -

غالباً ما يجري الحديث عن الاستشراق كمقولة عامة تضمّ داخلها الكثير من المسلّمات والأحكام، بعضها سلبيّ يكاد يرفض كل ما يأتي تحت يافطة الاستشراق وبعضها الآخر إيجابي يجعل من مقولة المستشرِق/ الرجل الأبيض مرجعية على حساب أي طرح آخر، وبينهما قلّما نقف على خطاب رصين فاحص نقديّ حول الاستشراق وما يقدّمه - في السابق واليوم - حول منطقتنا كموضوع درس. 

ضمن محاولة للنظر في الاستشراق دون أحكام مسبقة، يمكن أن نقرأ محاضرة الباحث اللبناني سهيل القش، أستاذ الفلسفة السياسية بجامعة لافال بكندا، التي ألقاها ضمن سيمنار "المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات"، يوم الأربعاء الماضي، 11 تشرين الثاني/ نوفمبر 2020، عبر منصّة المركز الافتراضية وتطبيق "زووم" وهو ما مكّن باحثين كثيرين من متابعة طروحات القش ومن ثمّ مناقشته حولها.

حملت المحاضرة عنوان "لبنان: المِرْآةُ المتكسرة؛ السرديات الاستشراقية". وهي تمثل - في الأصل - فصلاً من كتاب بعنوان "لبنان: المِرْآةُ المتكسرة" وضعه القش بالفرنسية ويقوم الآن بإعداده ليصدر أولاً في العربية عن "المركز العربي".

يدرس كيف تلقّفت المجتمعات العربية الحداثة الغربية

ينطلق الباحث اللبناني من إشكالية طرحها عالم الاجتماع الألماني ماكس فيبر في مقدمة لكتاب "الأخلاق البروتستانتية وروح الرأسمالية"، مفادها أن "كل الذين نشأوا داخل الحضارة الأوروبية اليوم، والذين يدرسون مشاكل التاريخ العالمي، سيجدون أنفسهم عاجلاً أم آجلاً مضطرين إلى طرح السؤال التالي: ما هي الظروف الخاصة بالحضارة الغربية دون سواها، التي أدت إلى ولادة ظواهر ثقافية اكتسبت، كما نميل إلى الاعتقاد، قيمة عالمية". ولا يخفى هنا أن هناك ارتباطاً مباشراً بين هذه المقولة والاستشراق باعتباره خطاباً من الغرب المطمئن لأدواته المعرفية عن الشرق الذي يُفترض أنه لا يملك أدوات معرفية مضادة لما يطرحه الغرب.

يرى القش أنه انطلاقاً من هذا التساؤل بنى فيبر إشكاليته النظرية التي شملت حقل أبحاثه الموسوعية في تاريخ الحضارات والأديان. يقول المحاضر: "تناولت هذه الأبحاث مختلف أشكال العقلانية خارج الغرب، والتي لم تستطع فرض نفسها كعقلانية كونية نظراً لتجذرها داخل بنى اجتماعية مختلفة عن تلك التي مكّنت الغرب من إنتاج عقلانيته الحديثة". 

ويضيف: "إن هذه البنى الاجتماعية الغربية هي التي شكّلت مناخاً ملائماً لتعميم هذه العقلانية الحديثة ومأسستها. فعلى سبيل المثال لا الحصر: إذا كان من المتداول القول بأن الحداثة الفلسفية في الغرب قد بدأت مع ديكارت الذي انحاز بفلسفته للعقل وللشك العلمي بدل الإيمان الديني المبنيّ على اليقين، فالحق يقال إن ابن رشد قد سبقه بقرون بتحرير العقل من يقين الإيمان. ولكن خطاب ابن رشد "الحديث" اصطدم ببنية اجتماعية عربية لم تتلقف عقلانية ابن رشد لتتولى مأسستها كما حصل في أوروبا المعاصرة لديكارت. بتعبير آخر، يمكن القول إن الحداثة الغربية لم تكن نتاجاً لفلسفة ديكارت، بل إن الثورات الاجتماعية والعلمية والتقنية هي التي سهلت ولادة عقلانية ديكارت، في حين أسهمت البنى الاجتماعية العربية في منع حداثة ابن رشد من أن تتبلور في مؤسسات حديثة دائمة". 

بالعودة إلى مسألة الاستشراق وسردياته، يشير القش إلى "تعدّد الاستراتيجيات" مقدّماً طرحاً يرصد فيه الثوابت والمسلّمات التي تعطي لهذه التعددية الاستشراقية وحدتها وتماسكها. ومن الثوابت المركزية لمختلف السرديات الاستشراقية، سلّط القش الضوء على إشكالية "النهضة" التي تؤرخ لتلقّف المجتمعات العربية للحداثة الغربية، وذلك في مرحلتين مختلفتين: مرحلة إنشاء مدرسة روما المارونية في نهاية القرن السادس عشر، ومرحلة حملة بونابرت على مصر في نهاية القرن الثامن عشر؛ وتتناول الأولى لقاء الحداثة الغربية بالمسيحية الشرقية، في حين تتناول الأخرى لقاءها بالإسلام.

يؤكّد على عدم حصر الخطاب الاستشراقي في الأيديولوجيا

وبعد وصف مختلف أنواع الاستشراق، يخلص صاحب كتاب "في البدء كانت الممانعة" إلى القول إنه "إذا كان الغرب، الذي ابتدع علم الإناسة الحديث (Ethnologie)، قد اكتشف أن هذا العلم المستجد الذي يدرس المجتمعات البدائية لا يلبّي درس الحضارات العريقة، وأن كل من ليس رجلًا أبيضَ ليس بدائيًا بالضرورة، فقد ابتدع الاستشراق لدراسة هذه الحضارات. ولذا، فإنّ مشكلة العرب مع المستشرق أنه لم يأتِ بمفرده ليتعرف إلى حضارتهم، بل أتاهم بمعيّة جيوش احتلال وحداثة قاهرة، وناصبوه العداء باعتباره مواكبًا للسلطة الكولونيالية، وتملكهم العجب حين اكتشفوا وجود استشراق علمي أتاهم تعلقاً بحضارتهم أو حبًا للعلم، وهم الذين اعتادوا، ومنهم إدوارد سعيد، أن يرادفوا بين الغرب والظلم والتسلّط". يرى القش أن سعيد "قصَر الاستشراق على بعده الأيديولوجي على حساب بُعده العلمي من جهة، وعلى حساب قرون من التفاعل بين الشرق والغرب (خارج العلاقة الكولونيالية) من جهة أخرى".

يختم القش محاضرته بالإشارة إلى "استحالة حصر الخطاب الاستشراقي في النموذج الأيديولوجي أو السياسي الملاصق والمبرِّر للسلطة، إذ وجد هذا النموذج التقليدي نفسه مضطرًا إلى مواكبة المعطيات المستجدة على الأقل منذ الحرب العالمية الثانية، فأصبح لا مناص للاستشراق، كما يقول جاك بيرك، من تجديد رؤيته ومناهجه بما يتناسب مع الأوضاع المستجدة، بتحديد ملامح الاستشراق المتجدد".

ضمن النقاش الذي تلا المحاضرة، تحدّث الكاتب فارس يواكيم عن ملاحظات "غير فكرية" حول المحاضرة منها تطرّقه إلى تجربته كلبناني ولد في مصر حيث تعلّم في البلدين ولاحظ اقتصار المادة التعليمية على التعريف بحضارتين لا غير: العربية كحضارة أم والغربية باعتبارها الآخر الوحيد، وإضافة إلى ذلك يشير إلى التأثر بالحضارة الغربية يأتي في كل بلد عربي بحسب مستعمره السابق، وهو ما يفضي بيواكيم إلى دعوة نحو مراجعة هذه العلاقة بالغرب حتى قبل نقد الخطاب الاستشراقي.

وتحدّث رشيد بوطيب عن أن محاضرة سهيل القش - وكتابه بشكل أوسع - تأتي ضمن "موجة فكرية نقدية صرنا نعيشها بقوة في السنوات الأخيرة"، وهي موجة يرى أنها تشير إلى قضية مهمة تتعلق بالعلاقة بين فكرتي التقدّم والعنصرية التي تجد منابعها في الفكر الهيغلي الذي يشير بوطيب إلى أن "تبنّيه عربياً - بشكل أعمى - هو الذي أنتج انقساماً وعمّق الهوة بين خطاب الهوية من جهة وخطاب التحديث من جهة ثانية".

المساهمون