سلسلة "فوليو": الأدب في مساحة بحجم الجيب

سلسلة "فوليو": الأدب في مساحة بحجم الجيب

21 يناير 2022
مكتبيّة تبيع كتاباً من مَحْمَل مخصّص لمنشورات "فوليو" في أجاكسيو، 2020 (Getty)
+ الخط -

عندما أطلقت منشورات "غاليمار" الفرنسية سلسلةَ "فوليو" لكتاب الجيب، ربيعَ عام 1972، كانت لدى صاحب الدار، كلود غاليمار، فكرة عن قائمة الكتب التي ستشكّل أولى إصدارات السلسلة. البداية مع رواية "الشرط الإنساني" (أو "الوضع البشري"، أو حتى "قدر الإنسان") لأندريه مالرو، تليها "الغريب" لألبير كامو، ثم مسرحية "لا مخرج" لجان بول سارتر، ورواية "رحلة ليلية" لأنطوان سان إكزوبيري. من بين الكتب العشرين الأولى، نقع، أيضاً، على روايات "الشيخ والبحر" لإرنست هيمنغواي، و"الأب غوريو" لبلزاك، و"الأحمر والأسود" لستاندال، "والسيمفونية الرعوية" لأندريه جيد، و"رحلة إلى قلْب الليل" للوي فردينان سيلين.

بعبارة أُخرى، شاءت الدار لسلسلتها أن تنطلق انطلاقة استثنائية، موشّحةً بعدد واسع من الكلاسيكيات المعاصرة في السرد والمسرح الأوروبيين. وهي كلاسيكيات لن تتوقّف "فوليو" عن اقتراحها بسعر زهيد، وبجودة عالية، إلى قرّاء الفرنسية، حتى يومنا هذا، الذي تحتفل فيه بمرور نصف قرنٍ على انطلاقتها. مناسبةٌ لا تحتفل بها السلسلةُ أو منشورات "غاليمار" وحدها، بل تشاركها إيّاها الصحافة الفرنسية، التي تعرف جيّداً مكانة "فوليو" في المشهد النشري المحلّي والفرنكفوني، بل حتى الأوروبي.

فالدار التي تطبع كتباً صغيرة بحجم اليد، أو أكبر قليلاً، تمثّل، منذ خمسين عاماً، شرياناً أساسياً في جسد النشر والكتاب الفرنسيّين. يشهد على ذلك أكثر من 9 آلاف كتابٍ نشرتها خلال هذه المدّة، لنحو 3 آلاف كاتبٍ وكاتبة، وقد بيع من هذه الأعمال أكثر من 450 مليون نسخة، مع حيازة عشرات من أصحاب هذه الأعمال لجوائز مثل "نوبل" و"غونكور" وغيرها. كلّ هذا يشرح لماذا تمثّل سلسلة "فوليو"، وحدها، نحو 50 في المائة من موارد "غاليمار".

رغم نجاحها منذ زمن، لم تُنزل السلسلة من مستوى تطلُّبها

خلال الخمسين سنة هذه، تحوّلت "فوليو" من سلسلةٍ تُصدر كلاسيكات الأدب وعيونه إلى ما تشبه الدار المستقلّة، أو السلسلة الكبيرة التي تضمّ العديد من السلاسل: "فوليو فلسفة"، "فوليو تاريخ"، "فوليو مقالات"، "فوليو رواية بوليسية"، "فوليو خيال علمي"، "فوليو مسرح"، "فوليو سيرة ذاتية"، "فوليو مزدوج اللغة"، إلخ. 

الحديثُ عن الأرقام وحدُه لا يكفي للتدليل على الدور الذي تلعبه السلسلة في الثقافة الفرنسية. فتحتَ هذه الأرقام، ووراءها، ثمّة اشتغالٌ على تقديم مادّة تحترم مهنة النشر، إن كان على صعيد الشكل، كالإخراج البصري والجمالية وتسهيل القراءة، أو على صعيد المحتوى، الذي لا تفرّط السلسلة به رغم صيتها الذائع، بل تبدو ساعيةً دائماً إلى تطويره وتوسيعه. كلّ هذا بسعرٍ معقول، لا يعوّضه اقتصادياً للدار، كما نتخيّل، إلّا العدد الكبير من النسخ التي يبيعها كثيرٌ من كتب السلسلة ("الغريب" لألبير كامو، وحده، باع نحو 9 ملايين نسخة منذ نشره).

كمْ يبدو مشهد النشر العربي بحاجة إلى دور وإلى سلاسل تنظر إلى الكتاب وصناعته بهذه الجدّية، وتخرج به من مساحات الهُواة والضيق الاقتصادي إلى رخاء يعود بالنفع ليس على الدار فقط، بل على كلّ العاملين في عالَم الكتاب، بدءاً بالمؤلّف وانتهاءً بأصحاب المكتبات ــ من دون نسيان القرّاء، الذين يجنون ثمار نجاح كهذا.

المساهمون