رحيل ماريو بارغاس يوسا.. من يوتوبيا شيوعية إلى وهم ليبرالي

14 ابريل 2025
ماريو بارغاس يوسا (1936 - 2025) أثناء وجوده في المسرح الملكي في مدريد، 2022 (Getty)
+ الخط -

استمع إلى الملخص

اظهر الملخص
- ماريو بارغاس يوسا، الروائي البيروفي، خاض تجربة سياسية في عام 1990 بترشحه لرئاسة بيرو، لكنه خسر أمام ألبرتو فوجيموري، معتبرًا أن دخوله السياسة كان لأسباب أخلاقية ومثيرًا مثل الكتابة.

- تأثر يوسا في شبابه بأفكار اليسار والشيوعية، لكنه ابتعد عنها لاحقًا منتقدًا ارتباطها بالاستبداد، واعتنق الليبرالية، مما أدى إلى خلافات مع أصدقاء مثل غابرييل غارسيا ماركيز.

- حصل يوسا على جائزة نوبل للآداب في 2010، واستمر في التعبير عن آرائه السياسية ودعم إسرائيل، بينما بقي رمزًا للأدب الواقعي.

نصحوه بعدم القيام بذلك، لأنّ الأمر سينتهي بشكل سيئ، لكن لم تكن هناك طريقة لإقناعه. هكذا أطلق الروائي البيروفي ماريو بارغاس يوسا (1936 - 2025)؛ الذي رحل عن عالمنا في ليما، أمس الأحد، عن عمر يناهز 89 عاماً، حملته الرئاسية في عام 1990، بالعزيمة نفسها التي أظهرها وهو يجلس أمام الآلة الكاتبة طوال حياته.

كان مرشّحاً عاطفياً وذكيّاً في الوقت نفسه، تماماً كما كانت الحال في رواياته، وانتهى به الأمر إلى الهزيمة في صناديق الاقتراع، على يد مهندسٍ زراعي سيصبح لاحقاً ديكتاتوراً، ألبرتو فوجيموري. أقسَم الكاتب أنّه دخل السياسة لسببٍ أخلاقي. ولم تنكر زوجته باتريسيا يوسا ذلك، لكنّها أكّدت أن خسارته لم تكن شيئاً مهماً مقارنة مع الإثارة الناجمة عن تجربة مليئة بالحياة: إنها تجربة الكتابة، في الحياة الواقعية، كتابة الرواية العظيمة.

منذ صغره، اعتاد صاحب "حفلة التيس" (1963) على جمع الشهادات والتفوّقات، وكان يقول عن نفسه دائماً إن هدفه الرئيسي ليس أن يصبح تمثالاً. لكن مع ذلك، رواية بعد أخرى، وموقف بعد آخر، رأى نفسه يتحوّل إلى أيقونة في الأدب العالمي.

هذه الأيقونة التي أثارت الكثير من الجدل في مواقفها السياسية؛ والتي كانت كما أوضح هو نفسه في أكثر من مناسبة نتيجة تأثّره بسارتر منذ سنواته الجامعية، حيث شارك في إضرابات مع الشيوعيين والملحدين، بدأت اشتراكية الطابع، حيث فهم ذلك التوجّه باعتباره وسيلة لتحقيق نقاء "الإنسان الجديد"، وأن هذه المبادئ يمكن تحقيقها من خلال النضال المسلح. ربّما دفعته هذه الأفكار إلى الدعم العلني لحركة حرب العصابات التي نشأت في المناطق الداخلية في بيرو، كما دفعته إلى الإعلان عن تضامنه مع الثورة الكوبية وإعجابه بكاسترو وغيفارا. 

في تلك السنوات كان يوسا مستعداً لتغيير العالم بقلبٍ دافئ، وقد جمعته هذه الأفكار الثوريّة مع غابرييل غارسيا ماركيز؛ الرائع الآخر الذي يكبره بعشر سنوات. كان يوسا منبهراً بالنثر الناري الذي كتبه صاحب "مائة عام من العزلة"، وخصّص له كتاباً بعنوان "تاريخ قاتل الإله" تحوّل إلى أيقونة لفهم أعمال ماركيز.

كلاهما، فيما بعد، سينالان "جائزة نوبل للآداب"؛ الأول عام 1982، ويوسا في 2010. لكن هذه الصداقة لن تدوم طويلاً، وسيكون الخلاف السياسي هو السبب. فماركيز كان ولاؤه مطلقاً لكاسترو، أمّا يوسا فقد راح رويداً رويداً يبتعد عن اليسار الذي سوف يربطه إلى الأبد بالاستبداد، والطغيان، والديكتاتورية، والفقر.

ابتعد عن اليسار وربطه بالفقر والاستبداد والطغيان إلى الأبد

هكذا اعتنق ماريو بارغاس يوسا الليبرالية، وانتقل من صفّ فيديل كاسترو إلى صف مارغريت تاتشر، وعلى طول هذا الطريق من ضفة إلى أخرى، كان إذا رأى طائرة هليكوبتر، فإنه مستعدٌ لأن يقضي ساعاتٍ طويلة بأسلوبه الروائي الشيق والمبدع كي يشرح كيف سمحت الليبرالية بجمع القطع من بلدان مختلفة في وحدة واحدة. هذا الانتقال التدريجي من اليسار المناضل إلى اليمين الليبرالي سوف يتحدّث عنه مطوّلاً في إطلالاته الصحافية الكثيرة في أبرز الصحف العالمية، حيث ذكر أنه قرأ الماركسية بشكلٍ مفصّل، وبدأ بعدم الثقة بها، حين شعر بأنَّ تلك القراءات كانت "غسيل دماغ"، كما سيقول لاحقاً في رواية "السمكة في الماء"، مبيّناً أنَّ تعامله مع الأيديولوجيات المختلفة اتسم بشيءٍ من الحدس، ولكن قبل كل شيء، اتسم بالدراسة والتحليل، لأنّه طوال حياته، قبل أن يكون كاتباً، كان قارئاً، رجلاً في الشمس، يجلس على كرسي، وأمامه كتاب.

طلاق اليسار لم ينته بـ"السلام الدائم" الذي يدّعي يوسا أنَّ الأنظمة الليبرالية تعمل من أجله، بل سينتهي بلكمة قوية سيوجهها إلى وجه ماركيز في صالة سينما في مدينة مكسيكو؛ وهو حدث لم يذكره يوسا أبداً، بل طلب ممن سيكتبون سيرته الذاتية أن يروه بعد موته (أي بدءاً من الأحد). كانت تلك اللكمة بمثابة وداعٍ للشاب اليساري المسكون بالماركسية، وولادة لشخص يفكر بطريقة مختلفة تماماً.

هذه الولادة تكرّست أكثر فأكثر حين أيقظته الأكاديمية السويدية في منتصف الليل في نيويورك، لتخبره أنه حصل أخيراً على الميدالية الأكثر شهرة بالعالم "لتصويره هياكل السلطة وصورة المقاومة الحادة، والتمرّد، وهزيمة الفرد".

هرباً من يوتوبيا شيوعية، ركض بارغاس يوسا وراء وهم ليبرالي متطرف دفعه في أكثر من مناسبة إلى وضع الجلاد والضحية في الكفة نفسها. وقد تجسّد ذلك بشكل واضح خلال دعمه لإسرائيل ولحكوماتها المتتالية، حيث زار الأراضي المحتلة في أكثر من مناسبة، واستلم جائزة هناك، ولم يتردد في دعم الاحتلال، متجاهلاً بشكل كاملٍ حقوق الإنسان الفلسطيني أمام من ادّعى أنّها تمثّل "ديمقراطية الشرق الأوسط".

"عادة ما تدفن جائزة نوبل الكاتبَ الذي يحصل عليها حياً، كما أنها تعلن عن انتهاء مسيرته الأدبية". هذا ما قاله يوسا بعد عقد من حصوله على الجائزة. وقد يكون محقاً في الشق الأول. لقد دفنت "نوبل" ماريو بارغاس يوسا السياسي؛ ذلك الرجل الذي تبنّى في شبابه مبادئ الثورة ضدّ الظلم والطغيان، لكنه دافع عنهما حينما تحوّل إلى يميني متطرف، خصوصاً في فلسطين. ربما كان يوسا، مجرد محاولة في عالم السياسة. لكن نيرانه الحقيقية كانت في الأدب، في الرواية، وفي الخيال الواقعي، هناك حيث يحبس نفسه في غرفة بمفرده ويكتب أول سطر من رواية نعرف أنها ستبقى حيّة في عالم الأدب.


* شاعر ومترجم سوري مقيم في إسبانيا

المساهمون