رحلة إلى الحرّية

رحلة إلى الحرّية

25 مارس 2022
كارولين سمرجيان/ سورية
+ الخط -

أعدتُ قراءة رواية "مغامرات هكلبِري فِن" للأميركي مارك توين. يجد المرء نفسه، بعد مرور عشرات السنين، أمام نصٍّ آخر لم يقرأه من قبل. فتذكُّر الشخصيات مثل هاك فِن أو جيم، أو تذكُّر الأحداث التي تُروى، لا ينفع في شيءٍ عدا أن يذكّر أن القراءة ليست القراءة.

أن تقرأ هذه الرواية وأنت فتى أمرٌ يختلف تماماً عن أن تُعيد قراءتها شابّاً أو كهلاً مزوّداً بالمعرفة. ففي الزمن الأوّل، كانت قراءة الرواية تمنح المتعة والتشويق وانتظار النجاة من المآزق التي تعترض طريق هاكلبري فن، وهي قراءة مشوّقة يعزّزها الروائي بالمغامرات والأحداث الكثيفة. غير أنها، في مرحلة أخرى، تُظهر أن الرواية نفسها تصلح لأن تُقرأ في طبقات من الوعي، والفهم، والخيال، ربما كانت هي التي منحتْها هذه القوّة على البقاء والانتشار في العالم.

ولهذا، فإن الرواية تبدو غير الرواية أيضاً. صحيحٌ أن مهارة مارك توين في القصّ تُحافظ على المستوى الأوّل الذي يقدّم المغامرة المشوّقة بحيث تُبقي القارئ متوتّراً ومشدوداً إلى الأحداث، غير أنه يسرّب إلى القراءة الناضجة فكرته الأهمّ، التي يكتب الرواية من أجلها. وقراءة الرواية اليوم تُظهر أمرين: الأوّل، هو هذا النشيد النبيل الذي يقدّس الحرّية أوّلاً، ويدعو إلى التحرّر، أي إلى تحرير العبيد؛ والثاني هو السؤال عن كيف يتمكّن الروائي من وضْع القيَم الكبرى في إهاب اثنين من البشر، يرحلان عبر نهر الميسيسبي على طوف، باحثَيْن عن الحرّية؟

أعتقد أن مارك توين يحلّ في هذه الرواية كثيراً من مشكلات الكتابة الروائية، عبر التبسيط، أي إخراج القضيّة أو المفهوم من الشعار، ووضعه في التجربة. فالحرّية، كقيمة وهدف، وكأمنية مشتهاة من الأفراد أو الجماعات أو الشعوب، تضع الروائي أمام معضلة التعبير. كيف نطالب بالحرّية؟ كيف يمكن التعبير عن توق الإنسان، في أيّ مكان، إلى الحرّية؟

يحلّ مارك توين عدداً من مشكلات الكتابة الروائية دون اللجوء لإدانات

لا يختار مارك توين السهولة، ولا يذهب في اتّجاه اليقين، فالمجتمع الأميركي من حوله لم يكن يؤمن بحرّية العبيد، وكان الآلاف من أفراده يعتبرون أن مسألة الاستعباد أمرٌ طبيعيّ لا يحتاج للمناقشة. رجالٌ ونساء وأولاد تربّوا جميعاً على رؤية أولئك الأشخاص، من اللون الآخر، عبيداً في منازلهم ومزارعهم.

يوضَع الأمر على هذا النحو دون إداناتٍ في الظاهر، غير أن الروائي يقدّم، في الوقت نفسه، سعيَ شخص مثل جيم كبديل. فالرجل المستعبَد لدى إحدى المالكات يفرّ إلى حرّيته، وفي طريقه يلتقي بهاكلبري فن. يستعير الروائي صوت شخصية هاك، الفتى الأبيض، لتصوير موقف شرائح من المجتمع الأميركي تجاه قضية العبودية. ويقدّم صوته أيضاً ضمن الجوقة للتعبير عن القضية.

وفي أحد المشاهد، يضع القارئ في لحظة أخلاقية شديدة الأهمّية، حين يبدأ هاك في مناقشة أمر الوشاية بجيم، فمِن جهة هناك ثلاثمئة دولار مكافاة، ومن جهة أُخرى هناك تربيته وثقافته، ومن جهة هناك قيَم المجتمع، ومن جهة أخرى هناك ضميره وأحاسيسه الداخلية التي تنزع نحو الحرّية وتنتصر أخيراً على كلّ ما عداها، دون أيّ ضجيج، كي ترسخ بوصفها القيمة الإنسانية الأرفع في الحياة البشرية.


* روائي من سورية

موقف
التحديثات الحية

المساهمون