رام الله في الرواية: إرباك الذات واستعصاء الحلم

رام الله في الرواية: إرباك الذات واستعصاء الحلم

31 يناير 2021
لوحة لـ سمير سلامة
+ الخط -

يختم إدوارد سعيد تقديمه لرواية "رأيت رام الله" لمريد البرغوثي، التي صدرت عام 1997، بقوله إن "هذا النص (...) في جوهره يستحضر المنفى، لا العودة"، في إشارة ذكية إلى شكل جديد من الاغتراب في مواجهة المكان الذي تحوّل من "ضاحية خضراء هادئة لمدينة القدس" إلى "مركز للحياة المدينية الفلسطينية".

تمظهرَ المكان في صورتين أساسيّتين لدى الروائيين الفلسطينيين؛ صورة متخيّلة عن فلسطينَ فُقدت عام 1948 لتنقل إلى الذاكرة كفضاء مستلبٍ ومشتهى في الأعمال التي كُتبت في المنافي وبلدان اللجوء، وصورة تنتمي إلى واقع مرفوض تمثَّل في الاحتلال الصهيوني الذي ابتلع كامل الأرض سنة 1967، وعبّرت عنه أعمال روائيين عاشوا في فلسطين المحتلة.

مع توقيع اتفاقية أوسلو، في الثالث عشر من أيلول/ سبتمبر سنة 1993، تخلّق التباس كبيرٌ مع المكان نفسه الذي بات ممكناً لعدد من الذين أبعدوا عنه قسراً، ولأولئك الذين يعيشون فيه بوصفه محتَلاً، فهُم نالوا سلطةً عليه لكنها ظلّت منقوصة حتى اللحظة، في كامل إرباكها على المستوى الذاتي، واستعصائها المطلق على المستوى الجمعي. هنا، في ظلّ هذا التشتّت وانعدام الوزن، ستنشأ تعبيرات أدبية وفنية جديدة، لكنها بلا أفق أو حلم يوازي ذاك الحلم الذي اجتمع حوله الفلسطينيون منذ ظهور مقاومتهم الأولى.

اختُرعت رام الله على نحو يتناقض مع فلسطين قبل احتلالها

صدرت العديد من الروايات المثقلة بالمفارقات، بعد اعتماد رام الله عاصمة إدارية للسلطة الفلسطينية عام 1995 - لأسباب غير مقنعة حتى اليوم - بسبب وجود مدن عديدة تمتلك مقوّمات أفصل ويُفترض أنها تخضع لسيطرة السلطة. وقاربت العديد من هذه الروايات تلك الحواجز الإسرائيلية التي تُذكّر بعدم زوال الاحتلال، أو بالتهكّم من من فكرة "العودة" إلى مكان لا يستقبلك أهلك فيه لأنهم جميعهم يسكنون المنفى، وباستخدام مفردة "عبور"، لأن العائدين رجعوا إلى مدن وبلدات فلسطين المحتلة عام 1967 وليس إلى مسقط رأسهم الذي سُلب قبل ذلك بنحو عقدين.

وخلال ما يزيد عن ربغ قرن، بدت رام الله مكاناً يُراد اختراعه على نحو يتناقض أو يتضادّ عن فلسطين قبل احتلالها؛ مكاناً يحضر فيه الناس من كلّ الأمكنة لكنّه لا يصهرهم في مجتمع متجانس؛ لهجته بيضاء كسائر عواصم المعمورة، ولا هوية واحدة ثابتة له. هكذا، تبدّت انقسامات السكّان التي لم تكن بارزة قبل ذلك، وبالطبع تلاشى الحلم تدريجياً، أو غدا ضبابياً، يشبه الواقع الذي ينطلق منه.

الكتّاب الذين عاشوا خارج فلسطين تعاملوا مع المكان/ الواقع الجديد، سواءً رجعوا إليه أو لم يرجعوا، بنوع من النوستالجيا إلى الماضي الذي يفارق حاضرهم بما يفيض من تيهٍ ويحاصرهم باللايقين. هذا ما فعله يحيى يخلف في رواية "نهر يستحمّ في البحيرة" (1997)، وسحر خليفة في رواية "أصل وفصل" (2009). في المقابل، ثمة الروائيون الذين بدأوا الكتابة بعد اتفاقية أوسلو، واضعين أعمالاً تبعث على الذعر والقلق من واقعهم/ مكانهم الجديد، في محاولة لكشف التشوّهات التي أصابته، وحالة العجز التي تكبّل الفلسطينيين، كما في روايات عبّاد يحيى عن رام الله، وأكرم مسلّم وآخرين.

لا تنفصل ولادة رام الله بصورتها الحالية عن السلطة نفسها

لا تنفصل ولادة رام الله بصورتها الحالية عن السلطة نفسها التي أسّست عاصمةً ترتبط بها وبرؤيتها للمكان والمجتمع، وخلقت إلى حدٍّ بعيد هوية جديدة لا تشبه تلك التي يحملها أهل المدينة قبل أوسلو، ومعهم أهل المدن والبلدات الذين قدموا للعمل في مؤسساتها الحكومية أو المنظّمات الدولية فيها أو الشركات الناشئة، وهي أيضاً لا تشبه هوية اللاجئين العائدين من أمكنة لجوئهم.

مارست السلطة عنفاً رمزياً على أبنائها من خلال فرض رام الله كمكان لا يرتبط به ساكنوه إلا من عبر علاقتهم بها، في لحظةٍ تفكَّكَ خلالها مشروعٌ سياسي سابق (الثورة الفلسطينية) وتشكّل مشروع سياسي جديد (السلطة). ورغم أن رفض المشروع الجديد لم يرقَ إلى تعبيرات أدبية وفنية واضحة، كمّاً ونوعاً، باسثناء نماذج قليلة، إلا أنّ الفلسطيني مارس سلوكه الرافض لمكانٍ مكروه بالنسبة إليه، ويهجوه على الدوام، وهو ما تسرّب إلى الرواية بشكل أو بآخر.

لا تنتهي العلاقة الشائكة مع رام الله عند هذا الحدّ. إذ إن المشروع الذي تحمله السلطة الجديدة أخفق في تحقيق دولة ذات سيادة، تعيش رغداً اقتصادياً، كما بشّر سياسيّوها في تسعينيات القرن الماضي. بل إنه انحسر إلى حدود مدينة لم تستطع فرض سلطتها على كامل الضفة الغربية، إنما مارست تأثيراً سلبياً، حيث يعتقد الكثير من الفلسطينيين أنها سببٌ في حالة التفكّك الاجتماعي وتغيّر قيم المجتمع، بالإضافة إلى تفاقم المشاكل المعيشية. والأنكى من ذلك أن الفلسطينيين أُخضعوا مجّدداً للإدارة المدنية للاحتلال الإسرائيلي، ولم تعد رام الله سوى دولة "متخيّلة" لدى فئة منتفِعة تريد الحفاظ عليها؛ مكان ملتبس ومشوّه في الواقع وغير موجود إلا على الورق، وفي أختام المعاملات الرسمية.

موقف
التحديثات الحية

المساهمون